17 فبراير 2009

" كم ينفق المصريون على التعليم ؟

" كم ينفق المصريون على التعليم ؟
خبراء في ندوة كتاب جديد :
سوق التعليم في مصر لا مكان فيه إلا .. لأبناء الأغنياء




محيط – شيماء عيسى
أقامت دار العين مؤخرا ندوة ضمت حشدا كبيرا من المثقفين وخبراء الإقتصاد والإجتماع المصريين وذلك لمناقشة كتاب صدر حديثا عن الدار للخبير والباحث الإقتصادي المصري عبدالخالق فاروق . ومؤلف الكتاب له العديد من الكتابات الصحفية والكتب التي تلاحق أوجه الفساد وتكشفها في قطاعات مصرية متعددة وتعرض بسببها - ولا زال - للعديد من الملاحقات الأمنية فضلا عن كونه عضوا نشطا بحركة "كفاية" المعارضة . الكتاب موضوع الندوة هو " وقد ناقشه إلى جانب المؤلف كل من التربوي المصري البارز أ. د . حامد عمار و الدكتور نادر الفرجاني المفكر الإجتماعي المعروف ، بينما ادارت الندوة الناقدة د. فاطمة البودي مؤسسة الدار .
وقال مؤلف الكتاب إنه يدين بالفضل الكبير لشيخ التربويين د. حامد عمار لتقديمه للكتاب وإحتفائه به رغم مشاغله الكثيرة، بحيث قدم نموذجا لقيم الأستاذية المفقودة حاليا بجامعاتنا المصرية ، واعتبره الباحث من القامات الكبيرة التي لعبت دورا في إرساء مجانية التعليم بمصر وأنه لولا هذا القامات والرئيس جمال عبد الناصر لما تعلم أبناء الفقراء في بلادنا .
وقال فاروق : قصدت من هذا الكتاب معرفة التكاليف التي تقع على عاتق الأسرة المصرية لتعليم الأبناء والقوى المتدخلة في هذه التكاليف وبالتالي كان لابد له أن يدرس الخرائط الإجتماعية للأسر في مصر وعلاقتها بالتعليم ، وخلص الباحث إلى أننا بمصر عقدنا سوقا ضخما للتعليم قضى على تطبيق مجانية التعليم على أرض الواقع .
ثم أراد أن يعرف أين تقع المدرسة والجامعة الحكومية في مصر من النظام التعليمي ، علما بأنهما بالتأكيد جوهر الإصلاح في التعليم وليست المدارس والجامعات الخاصة ، في الوقت الذي نفى عن نفسه أي عداء لتعليم أبناء الأغنياء في مصر في مؤسسات تعليمية أعلى تكلفة .
وقد قامت دراسة الباحث عبدالخالق فاروق على منهج السيناريوهات والمناسب لدراسة ظاهرة اجتماعية كالتعليم وخاصة أننا لا نمتلك إحصائيات تخبرنا بشكل الإنفاق العائلي في مصر على مجال التعليم ، وبحيث خلص لثلاثة سيناريوهات محتملة .



تحدث فاروق كيف أننا في مصر نعاني من تضاؤل الموارد الحكومية المخصصة للتعليم ؛ إذ على الرغم من أنها تزايدت منذ عام 1993 حيث كانت 6 مليار جنيه لتصل حاليا إلى 26 مليار ، إلا أن هذه الموارد الحكومية تدار بصورة "غير فعالة" ، فعلى سبيل المثال مكافآت المدرسين زادت بنسب قليلة لتصل لنحو 2000 للمعلم نهاية العام !! وحوافزهم أيضا زادت ، ولكن يظل دخله عموما في غاية التدني ولا يقارن بموظف في قطاعات أخرى مثل البنوك والبترول وغيرها حيث تكون الرواتب أعلى بنحو 15 ضعفا . إذن المعلم في مصر لا يتحصل إلا على "ملاليم" لا يمكن لها أن تعينه على حياة كريمة وأسرته ومن هنا كان لزاما على كل مدرس في مصر أن يلجأ إلى " الخطيئة الجبرية" أي الدروس الخصوصية ليزيد دخله .
حصر الكتاب ما تتحمله الأسر المصرية من نفقات في مجموعات التقوية الرسمية بالمدارس ثم " السوق السوداء" التعليمية وهي الكتب الخارجية والدروس الخصوصية إضافة لمصروف الجيب والإنتقالات والملابس، وحصر النفقات الرسمية بالمدارس الحكومية والخاصة ، وتوصل إلى ثلاثة سيناريوهات ففي الأول افترض أن 25% من إجمالي الطلبة المصريين ينتظمون في مادة دراسية واحدة ، وفي الثاني جعل نفس النسبة منتظمة في دروس بثلاث مواد دراسية ، بينما افترض في السيناريو الثالث والأخير أن 50% من الطلبة ينتظمون بمجموعات أو دروس تقوية في جميع المواد الدراسية ، وذلك في عينة عشوائية شملت 54 أسرة مصرية واعتمادا على دراسة أعدها أيضا مجلس معلومات مجلس الوزراء عام 2005 ، وكانت النتيجة أنه في السيناريو الأول فإن نفقات الأسر على تعليم الأبناء تصل إلى 17.7 مليار جنيه ، وفي السيناريو المتوسط تصل إلى 21.1 مليار جنيه أما في السيناريو الأخير المرتفع فتصل إلى 35 .4 مليار جنيه.
الأسرة المصرية تتحمـــل
من 37 إلى 53 مليار جنيه لتعليم أبنائها
هذا يعني أن طلبة مصر المقدر عددهم بنحو 16 مليون يحمّلون أسرهم من 37 إلى 53 مليار جنيه ، هذا فضلا عن النفقات الحكومية الرسمية على التعليم التي تصل ل 26 مليار جنيه!!
بعدها تحدث أ. د حامد عمار مؤكدا أن ميزة الكتاب في أنه تناول اقتصاديات التعليم في مصر وهو أمر غفلت التركيز عليه أغلب كليات التربية المصرية ، وذكّر عمار بعميد الأدب العربي طه حسين حينما أقر مجانية التعليم ووقتها ثار مجلس الوزراء عليه ثورة عارمة معللين أنه لا توجد أموال لذلك لدى الحكومة ، ورد عليهم طه حسين بعبارة واحدة " على وزير المال أن يدبر المال" .
ووفق د. عمار فقد جرت العادة في مصر على الإقتصار على موازنة وزارات التربية والتعليم لحساب نفقات التعليم وعلى كلٍ فهي لم تزد عن 14.1 % من إجمالي الناتج المحلي في مصر ، وهي نسبة تتضاءل إذا علمنا أن الناتج الإجمالي عام 2009 من المحتمل أن يصل لترليون جنيه وبالتالي تكون مخصصات التعليم 4% فقط !! .
وتابع شيخ التربويين قائلا أنه حضر أحد المؤتمرات الهامة حول التعليم والذي دعت له منظمة اليونيسكو وعقد بألمانيا وخلاله صدرت توصية من المنظمة الدولية بأن أية دولة نامية لن تتحرك قدماً في مجال التعليم إذا قل إنفاقها على التعليم عن 6% من الناتج المحلي . إذن لو خصصت الحكومة المصرية هذه النسبة الدولية 6% فقط من الترليون جنيه الناتج المحلي الإجمالي أي حوالي 60 مليار جنيه سيتغير وجه التعليم في مصر .
واعتبر أن جميع وزراء التعليم في مصر لا يمكننا أن نلقي باللوم عليهم لأنهم يريدون إحداث تغييرات ظاهرية ويتركون الجسم الحقيقي للتعليم ، علما بأن القوانين كثيرة وما يدعونه من وضع " معايير الجودة" و " المدرسة الذكية" وخلافه من هيئات ولجان .. كل ذلك لا طائل من ورائه بدون فكر حقيقي .
،، إلغاء إختبارات الثانوية العامة يعني
فتح باب المحسوبيات على مصراعيه ،،
وبلغت أزمتنا كمصريين ذروتها – والحديث للدكتور حامد عمار – إذا سمعنا تصريحات وزير التربية والتعليم بإلغاء الثانوية العامة ، وليحل محلها نظام اختبارات القبول والقدرات للإلتحاق بالكليات ، وبما يعني فتح الباب واسعا للمحسوبيات وفقدان الأساليب الموضوعية لتقييم الطلبة بصورة عادلة .
أما المفكر الإجتماعي د. نادر السرجاني فاعتبر ما قدمه مؤلف الكتاب عبدالخالق فاروق هو جهد تقوم به مؤسسة . واندهش من انقلاب الحال في مصر إذ الأسرة المصرية تنفق ضعف الإنفاق الحكومي على التعليم مع أن العكس هو الأصل ، ولا ننسى علاقة ذلك بنظرة الأسرة المصرية للتعليم على أنه وسيلة لصعود أبنائهم اجتماعيا ويبرز ذلك اهتمام الأسر البالغ في مصر بمسألة التعليم .



ورأى د. السرجاني أنه هناك العديد من المآخذ على الكتاب والدراسة التي يحويها من ضمنها الخلط بين موازنات الدولة والحساب الختامي ، ومن جهة ثانية فإن التضخم وازدياد عدد التلاميذ عاملان جعلا إنفاق الحكومة على التعليم وكذلك زيادات المدرسين ذي قيمة أقل من المطروحة بالدراسة .
واعترض المفكر الإجتماعي على تسمية الدروس الخصوصية بالسوق السوداء كونها تمارس في العلن وكونها تكمل النقص في النظام التعليمي ، مشيرا لقول المفكر العالمي كافكا " وكأن الحكومة تنشيء المدارس ليتقابل المدرسين مع المستهلك المحتمل وهو الطالب " ، وعموما انتشار الدروس الخصوصية نابع من فشل التعليم الحكومي . والكتاب لم يتطرق لكفاءة الإنفاق على التعليم بمعنى هل يؤثر ما تنفقه الأسر المصرية إيجابا في مستوى أبنائهم الدراسي أم لا ؟ .
وعقب الحاضرون بمداخلات على ما ذكره الخبراء حول الكتاب فقال محمد الخولي ان الدروس الخصوصية بالفعل سوق سوداء حيث تفسد علاقة التلميذ بالمدرس والعملية التعليمية بسببها انهارت ، وأكد أن إلغاء مكتب التنسيق لدخول أبنائنا الكليات أمر مخيف لأنه آخر خط دفاع للعدالة الإجتماعية والمساواة .
وفي مداخلة د. مصطفى فهمي اكد رفضه لدخول أبناء الأغنياء مدارس خاصة بهم فلابد أن أخرج مواطن له تعليم معين يتساوى فيها الغني والفقير . أما د. كريمة الحفناوي فأضافت للنفقات التي تتحملها الأسر في تعليم أبنائها والمذكورة بالكتاب السكن لطلاب الجامعات الخاصة وهو سوق حقيقية مبنية على هؤلاء الطلاب ويتحمل الأهل ليس تكلفة السكن وإنما معيشة الإبن كاملة فيه ، وأضافت كذلك أنه ليس معنى إدخال بعض الأسر لأبنائها مدارس خاصة أنهم لديهم المقدرة المادية العالية إذ أن البديل هو المدرسة الحكومية وهي ذات أبنية متهالكة ولا توجد دراسة بالمعنى الحقيقي فيها ويضطر التلاميذ للجوء في كل المواد للدروس الخصوصية .
،، أين عائد كل هذه النفقات
على التعليم في مصر ؟ ،،
د. نبيل علي خبير المعلوماتية والمفكر العربي قال أن الشعب المصري أكد من خلال إنفاقه على التعليم أنه يسعى لإلغاء الطبقية بين غني وفقير ، وقال أن مجتمع الحداثة يعتمد على المصنع والمدرسة والمسجد والمستشفى ، مشيرا إلى أن كل المؤسسات فشلت والسجن وحده هو ما نجح لدينا بتادية دوره المنوط ، وأكد على فكرة الهدر التعليمي حيث أن السؤال الهام ليس في التكلفة التي يتعلم بها أبنائنا فحسب ، وإنما في عائد هذه التكلفة .. هل يجد شباب مصر أماكن لهم في سوق العمل بعد التخرج ؟ والإجابة لا بالطبع لأن التعليم لا يجهزهم لهذا السوق .
أحد المتداخلين بالندوة اشار لمقولة مدير مكتبة الإسكندرية والتي تعبر عن فكر قطاع عريض من المسئولين الحكوميين في مصر ، وهي أننا لا يجب أن نعلم كل الشعب المصري وإنما يمكننا أن نحافظ على مجانية التعليم ونعطي التعليم الحقيقي لنخبة مختارة فقط من الأبناء ، وهؤلاء يقومون بتعليم باقي المجتمع !!



في حين تحدث فاروق العشري الخبير المالي المرموق عن رفضه لفكرة الفصلين الدراسيين الذي يشكل عبئا رهيبا على الأسر المصرية ، فكل فصل له كتبه ومتطلباته الجديدة .
واختتم ضيوف الندوة حول كتاب " كم ينفق المصريون على التعليم؟" ذلك اللقاء بكلمات جاءت تعقيبا على مداخلات الحضور ، فأكد د. حامد عمار أن التعليم عملية سياسية والسياسة عملية تعليمية ؛ لأن السياسة تمسك برقاب التعليم وتوجهه . د. نادر الفرجاني قال أن مشكلة التعليم الأجنبي في أنه يخلق جيلا عميلا للدول التي يتعلم ثقافتها ولا يكون لديه إنتماء .
مؤلف الكتاب عبدالخالق فاروق أكد أننا نعيش في مصر مرحلة إزاحة إجتماعية ؛ فالأرقام الفلكية لدخول كليات القمة مثل الطب والهندسة تؤكد أن الدولة أرادت دفع الطلبة للتعليم بالجامعات الخاصة ، إذ كيف يحصل الطالب على مجموع درجات 95% في الثانوية العامة ولا يتمكن من اللحاق بكليته المفضلة ؟ ، ويؤكد ذلك قرارات الحكومة بمنع إلتحاق الطلبة إلا بالكليات الداخلة ضمن التوزيع الإقليمي . أشار أيضا لنقطة هامة أخيرة وهي
مؤلف الكتاب : الحكومة تجبرنا على اللجوء للجامعات والمدارس الخاصة .
أن مصر بها صندوق يسمى "موزانة الطواريء" لا يخضع لأي جهة رقابية أو محاسبية ويضخ فيه سنويا 16 مليار جنيه بالطبع يذهب جانب كبير منهم لوزارات الدفاع والداخلية علما بأن هذه الوزارات تحظى ب 22% من إنفاق الموازنة العامة لمصر سنويا !! واقترح أن يخصص نصف المبلغ الموجه من الصندوق لهذه الوزارات ويعطى للتعليم ، ومؤكدا ان مصر ليست دولة فقيرة ولكن مواردها لا تدار بالصورة الصحيحة إطلاقا .

يذكر أن مؤلف الكتاب عبدالخالق فاروق مواليد القاهرة 1957 ، حاصل على بكالوريوس الاقتصاد والعلوم السياسية من جامعة القاهرة 1979 وليسانس الحقوق 1992 ، وعمل باحثا اقتصاديا بمركز الأهرام الاستراتيجي ومكتب رئيس الوزراء المصري وهيئة الرقابة على التأمين التابعة لوزارة الاقتصاد ، إضافة لعمله بالجهاز المركزي للتنظيم والإدارة ، وله العديد من الكتابات الصحفية .
حصل على جائزة الدولة التشجيعية في العلوم الإقتصادية والقانونية عام 2003 ، وجائزة أفضل كتاب اقتصادي لعام 2002 من أكاديمية البحث العلمي بعنوان " النفط والأموال العربية في الخارج " ، وله العديد من المؤلفات التي تدور حول قضايا اقتصادية وسياسية واجتماعية كان آخرها لهذا العام " عريضة اتهام ضد الرئيس " عن مركز يافا للدراسات ، و " جذور الفساد الإداري في مصر " عن دار الشروق .



ليست هناك تعليقات: