21 فبراير 2009

صفر الإعلام المصرى-- د.عمرو الشوبكي


صفر الإعلام المصرى
15.01.2009
الإعلام الرسمى المصرى :عدم الكفاءة، وغياب المهنيةوعدم القدرة على الدفاع عن اختيارات مصر ومواقفها السياسية.
بقلم: د.عمرو الشوبكي

لم تكشف محرقة غزة عن فشل النظام العربى الرسمى فقط، إنما أيضا عن فشل إعلامى وسياسى ودبلوماسى موازٍ، أثبت عجز الحالة العربية فى السياسة والاقتصاد والأداء المهنى، ونجاحها المؤكد فى حرب الهتافات والمزايدات المتبادلة. وقد تفوق
الإعلام الرسمى المصرى، إلا باستثناءات قليلة، على نفسه فى عدم الكفاءة، وغياب المهنية، وحتى فى القدرة على الدفاع عن اختيارات مصر ومواقفها السياسية. وإذا كان عصر الإعلام الموجه قد انتهى، حتى لو أبدعنا فى مستوى الإعلاميين، وأضفنا قوائم طويلة من الجهلاء والمخبرين القدامى الصريحين، والجدد الناعمين، الذين يبدون أحياناً وكأنهم معارضون، (فى كل ما هو تافه وصغير)، وكشفوا عن معدنهم «الأمنى» الأصيل فى المواقف المفصلية وفى الأزمات الكبرى. ولعل الحملة الأخيرة على الأستاذ هيكل، بعد الحديث الذى ألقاه فى قناة الجزيرة، كشفت لنا كيف أن القائمة طويلة من محترفى الكذب ومدعى الموهبة ومحتكرى الوطنية، حتى أصبح الاختلاف مع سياسات الرئيس مساوياً لغياب الوطنية، وصار رونق هيكل وقيمته، يثير كراهية البعض نتيجة عقد حقيقية ارتبطت بالمناخ السياسى والإعلامى الحالى، الذى لا يرتاح إلى وجود رأى عام واسع داخل هذا البلد، لايزال (رغم كل ما جرى ويجرى) يقدر الموهبة والجدية والاستقلالية (وبالنسبة لهيكل هى بالمعنى الاستثنائى الفريد) حتى لو لم ترتبط بوظيفة، وأن من يوصفون بمريديه اختاروا بمحض إرادتهم أن يحبوه ويتعلموا منه، (ومن الطبيعى أيضاً أن يختلفوا معه)، رغم أنه ليس مسؤولاً ولا وزيراً، على عكس ما يجرى مع قادة المؤسسات الإعلامية الرسمية، الذين يضطر مرؤوسوهم لمنافقتهم كل صباح، ولن يلقوا عليهم السلام بعد أن يغادروا كراسيهم الحكومية. والمؤكد أن هيكل ليس فقط مجرد قيمة إنما أيضاً له رؤية سياسية، ليست محل إجماع داخل النخبة المصرية، فهناك على عكس الأستاذ (وللأسف) من يعتبر أن إيران والأصولية الإسلامية، وبالتالى حركة حماس، أخطر على مصر من إسرائيل، وكان يمكن - ولو على سبيل إبراء الذمة - مناقشة ما قاله الرجل فى مواجهة هذه الأفكار فى أى صحيفة أو قناة مصرية عامة أو خاصة، وذلك بدعوة ليبراليين حقيقيين يقرؤون ويكتبون (بجد) ليناقشوا تصوراته ويختلفوا معها فى مواجهة آخرين يؤمنون برؤيته، إذا أردنا أن نقدم شيئاً جاداً يمكن أن يغير من الصورة السلبية التى أصابت سمعة مصر العربية والدولية نتيجة سوء أدائها السياسى والإعلامى. ولعل هذه الطريقة «غير المهنية» فى التعامل مع ما طرحه الأستاذ هيكل مؤخراً، كانت امتداداً لتعامل الحكم المرتبك والمتردد مع عدوان غزة، منذ أن استقبل وزيرة الخارجية الإسرائيلية فى القاهرة قبل يوم من العدوان، وهو الأمر الذى أثار الرأى العام المصرى والعربى، ومع ذلك لم يتحرك إعلامنا الرسمى بطريقة مهنية تقوم على إعطاء مساحة ما لمعارضى السياسة المصرية مع مؤيديها، كما فعلت كل الفضائيات التى نشتمها. لقد تناسى إعلامنا الموجه، أن من هاجم مصر بالحق أو بالباطل كانت حجته فلسطين، فكان الرد يجب أن يتمحور حولها، لا الاستسلام الكامل دون أى مهنية أو حس سياسى لخطاب المهاترات والردح، حيث أصبحت مهمة أى خبير سياسى أو أمنى فى التليفزيون الحكومى أن يشتم «حماس»، ويتحدث ببساطة يحسد عليها عن دور إسرائيل فى نشأتها، ثم ينتقل بسلاسة إلى شتم إيران وسياساتها التوسعية، (دون أن يشير بالطبع إلى أنه نتيجة الخيبة العربية والمصرية)، وينتهى بالتأكيد على المؤامرة الإخوانية العالمية من أجل تأسيس الإمارة الإسلامية فى غزة التى ستغزو بعد ذلك مصر! كل ذلك والشعب الفلسطينى يُذبح على حدودنا. وحين أخطأ حسن نصرالله بتصريحه التحريضى فى حق شعب مصر وجيشها، وبدا فيه أنه أسير «الحالة اللبنانية» التى انقسم فيها الجيش أثناء الحرب الأهلية وتلعب الدولة دوراً شكلياً بعد أن أصبح زعيم كل حزب أو طائفة دولة داخل دولة.. لم يعرف أن مصر بها دولة مركزية رغم ترهلها وسوء أدائها، فشلت القوى الكبرى فى ترويضها أو هدمها حتى لو استمالت قادتها. وعقب هذا التصريح أضيف حزب الله إلى قائمة «أعداء مصر»، التى تضم حركة حماس وإيران، ولم يتأخر مندوبو الحكومة والأجهزة الأمنية فى تقديم خطب حنجورية ضد هؤلاء الأعداء الافتراضيين، دون أن تثير حميتهم القنابل الإسرائيلية المنهمرة على الأبرياء فى غزة. وعاد الإعلام الرسمى مرة أخرى وشن حملة واسعة ضد حماس والشعب الفلسطينى عقب استشهاد مواطن فلسطينى وضابط مصرى على الحدود مع رفح. كان طبيعياً أن تحزن أسرته بل يحزن الشعب على شهيد الواجب، ولكن بدا الأمر غريباً فى تجاهل الإعلام الرسمى الحديث عن شهدائنا من الجنود والضباط الذين سقطوا برصاص الجيش الإسرائيلى، ويختار هذه الحالة فقط ليتحدث عنها كل يوم من أجل اتهام حماس وشتمها. والمفارقة أن الإعلام الرسمى عاد بعد ٣٠ عاماً من معاهدة السلام، وعقب أهم اشتباك فكرى وسياسى وإعلامى عرفته النخبة المصرية والعربية بسبب التسوية السلمية، ليسقط فى ردح أسوأ بكثير مما جرى فى عهد الرئيس السادات، وكأننا لم نتعلم شيئاً بعد هذه العقود الثلاثة، خاصة أن جعبة أنصار الرئيس الراحل لم تخلُ من حجج سياسية قوية تبرر خطوته المنفردة، وصارت من أسس التفكير التى يقوم عليها ما يمكن تسميته فكر «اليمين العربى» من تكريس للمصلحة القطرية والقبول بتوازنات القوى العالمية، واعتبار التسوية السلمية هى الطريق الوحيد لحل الصراع العربى - الإسرائيلى.. وهى كلها مفاهيم تستحق المناقشة، ولكنها غابت أمام جحافل الجهلاء والمخبرين الذين أحسن الحكم تربيتهم على مدار أكثر من ربع قرن. وتوارت هذه الأفكار أمام خطاب متناقض آخر ردده كثير من «الإعلاميين القدامى والجدد»، نقلاً عن كبار المسؤولين، حين ذكروا العرب والفلسطينيين بجحودهم تجاه مصر لأنهم تناسوا ما قامت به من تضحيات منذ أكثر من ٤٠ عاماً من أجل القضية الفلسطينية. والمفارقة أن نظام مصر اختار بمحض إرادته أن يوقع اتفاق سلام منفرداً مع إسرائيل، بسبب «حروب عبدالناصر من أجل العرب وفلسطين»، ويعلن توبته وندمه على هذه الحروب، ولكنه عاد، وهو الذى أسس شرعيته على التسوية السلمية ليفتخر بحروب تنكر لها، فبأى حق يعتبرها من تضحياته وإنجازاته؟! ولم ينسَ الإعلام الرسمى على سبيل إبراء الذمة، القيام بحملات الإدانة «والشجب الآمن» للسياسات الإسرائيلية، حين كان لا يتطلب الأمر أكثر من الكلام، وعاد هذا الإعلام نفسه وتحول مائة وثمانين درجة حين تطلب الأمر دعماً ولو بسيط (سياسياً ودبلوماسياً وإنسانياً فقط) لصالح الشعب الفلسطينى. ستظل مشكلة الإعلام الرسمى جزءاً من أزمة عامة لا تتعلق بالضرورة بجوهر الخيارات السياسية للنظام المصرى، إنما تتعلق بكفاءته المحدودة وخياله القاصر وجموده المستمر، وصار الإعلام جزءاً من أزمة سياسية أكبر ندفع ثمنها كل يوم، ولكن لانزال عاجزين عن مواجهتها أو حتى إيقاف تدهورها.

ليست هناك تعليقات: