نصر هو الأول من نوعه في فلسطين؟
مشاهد القتل المروع والمذابح،وتفاعلنا معها رفضا واستنكارا"وحرق دم " وإدانة ونشاطا وتظاهرا وضغطا على النظام الرسمي العربي،لا يجب أن ينسينا أن دماء هؤلاء الشهداء وآلام الجرحى والصبر على الجوع والعطش والمرض،ومثابرة المقاومة وخططها،قد أنجزت نصرا كبيرا..بل وخطيرا،إذ نحن الآن أمام نقلة كبرى في قدرة المقاومة الفلسطينية وأمام تغيير لخريطة موازين القوى،تحدث لأول مرة منذ عام 48 وحتى الآن.
إن من حق اللاجئين الفلسطينيين الأول،أن يفخروا اليوم بأن أبناءهم صاروا قادة سياسيين وعسكريين من الطراز الأول،فمن كان يتخيل منا،أن الجيش الصهيوني "الذي لا يقهر " يقف على أبواب المدن الفلسطينية في غزة،وهو الذي لم تستعص عليه من قبل مدينة فلسطينية واحدة،ومن كان يحلم منا بأن غزة المحاصرة المجوعة والممنوع عليها كل سبل الحياة،ستصمد أمام آلة القتل الإسرائيلية،وتبادلها الرد بالرد والقوة بالقوة،فما بالنا لو كانت غزة "مسلحة"؟!
وأن من حق الشعوب العربية والإسلامية،أن تفخر اليوم،بأن أبناء لها..فتية آمنوا بربهم،قد تمكنوا من إحراز كل هذا التطور والتغيير الاستراتيجي في الصراع في مواجهة إسرائيل والولايات المتحدة والدول الأوروبية وفى مواجهة ضعف النظم،وأن تصمد قتالا وجوعا وعطشا لتجبر كل الذين راهنوا على انكسار المقاومة وانهيارها أمام هذا الجبروت،أن يتحركوا.
وأن من حق كل قوى المقاومة في الأمة اليوم،أن تقول إن رهانها ورؤيتها ودفاعها عن خط المقاومة،كان إدراكا صحيحا لأساليب الصراع،وبأن هزيمة إسرائيل والولايات المتحدة ممكنة،بل هي في اليد والواقع لا في العقل والتصور والرؤية والفكر فقط.
وعلى الجانب المقابل،فإن من واجب كل الذين راهنوا على إسرائيل والولايات المتحدة،وتصوروا أن آلة القتل الإسرائيلية بارعة في إرسال المعارضين إلى المقابر دون قدرة على المواجهة،من واجبهم أن يعلنوا خطأهم وتوبتهم إلى الله العزيز القوي الجبار.
وأن من واجب كل الذين تحدثوا عن رفض طريق المقاومة وصاروا يشوهون هذا الطريق ومجموعاته وأنصاره وأساليبه وقدراته،أن يتراجعوا اليوم عن كل ما قالوه.كل الذين رفضوا وشوهوا العمليات الفدائية ضد إسرائيل،وكل الذين تحدثوا عن عبثية صواريخ المقاومة،والذين روجوا للحلول التفاوضية ورفضوا المقاومة،من واجب كل هؤلاء أن يعتذروا علنا،وأن يتوقفوا على الفور عن ممارسة ألاعيب جديدة لا تخدم إلا الأهداف الإسرائيلية وعلى رأسها الترويج بأن حماس هي سبب المآسي –وهو ما تروج له آلة الدعاية الإسرائيلية لتبرئة نفسها- وإلا صاروا أصحاب قلوب مريضة ومصابين بداء العمى،فهل كانت حماس موجودة في مذابح عام 48 أو هي من تسبب في الاعتداءات الصهيونية على مصر وسوريا ولبنان؟
لكن لم نقول إن المقاومة سجلت نقلة إستراتيجية في الصراع لمصلحة الأمة،وأن المقاومة حققت نقلة في الصراع على الأرض الفلسطينية لم يتحقق مثلها منذ عام 48 وحتى الآن،وأن مستقبل المقاومة صار عنوانا لحل وحسم القضية؟
تغيير إستراتيجي
يمكن القول باطمئنان عقلي وقلبي وعلمي،أن معركة غزة تمثل نقلة نوعية من الوزن الاستراتيجي في أداء المقاومة الفلسطينية ودورها في المواجهة والمعركة من أجل تحرير فلسطين،وأننا أمام تغيير في التوازنات بين المقاومة وأعدائها،بما يحقق بداية انطلاق مرحلة جديدة من مراحل الصراع على الأرض الفلسطينية.
.تلك هي خلاصة المعركة الجارية الآن في غزة،وذلك هو ما يظهر لكل متابع ومحلل للدلالات الإستراتيجية الكلية للجاري حاليا – رغم بشاعة القتل والمجازر- بل هو أمر يظل كما هو حتى لو سيطرت قوات الاحتلال الإسرائيلية على معظم أراضى غزة.الأمر يتضح من مقارنة نتائج كل المعارك والمواجهات الفلسطينية (ما بعد عدم مشاركة الجيوش العربية في المعارك ضد الجيش الصهيوني منذ حرب أكتوبر 73 )..ومعركة غزة الجارية الآن.
في كل المعارك "الفلسطينية-الإسرائيلية" السابقة،منذ العدوان على لبنان عام 82،كانت الخلاصة الكلية،هي إن القوات إسرائيل قد تمكنت خلال تلك المعارك من التوغل لمساحات واسعة خلال وقت زمني قصير.وأن القيادة الإسرائيلية حققت أهدافها السياسية من القتال والغزو والاحتلال على المستوى التكتيكي المباشر،وعلى المستوى الاستراتيجي الكلى.هي كانت تحقق "انتصارا " في عملياتها العسكرية المباشرة،ينتج عنه إخلاء المقاومة من المواقع التي كانت تتواجد فيها وتقاوم من خلالها وبتغيير الأوضاع على الأرض،من خلال إنهاء دور "الخصم" في المنطقة محل المعركة.بعد اجتياح لبنان في عام 82،خرجت قوات المقاومة الفلسطينية من لبنان،كما غادرت القيادة الفلسطينية ذات البلد،لتبدأ مرحلة جديدة من الصراع،لا يوجد فيها تماس بين المقاومة وقوات العدو،ومن بعدها بدأت مرحلة من التنازلات السياسية والإستراتيجية على الجانب الفلسطيني.والأهم هو أن القضية الفلسطينية بعد هذه المعركة،قد شهدت تراجعا على صعيد المواقف الشعبية والرسمية الداعمة لها في المنطقة العربية،التي كانت القضية المنطقة الأبرز في العالم الإسلامي التي تمارس الصراع ضد إسرائيل.
لكن الوضع مختلف الآن،إذ يقاتل الفلسطينيون على أرضهم،كما هم يحققون صمودا غير مسبوق،بينما هم محاصرون تسليحيا وغذائيا ودوائيا.
المقاومة.. واجتياحين
ويتضح جوهر التغيير الذي جرى في قدرة المقاومة، من مقارنة أوضاع ونتائج معركتين خاضتهما المقاومة ما بعد أسلو.أولهما المعركة التي جرت في مواجهة اجتياح القوات الإسرائيلية للأراضي الفلسطينية ما بعد فشل مفاوضات كامب ديفيد 2 (التي جرت بين عرفات وباراك،كان رئيسا للوزراء الصهيوني وقتها) والمعركة الجارية الآن جراء العدوان الإسرائيلي على غزة.إن مقارنة ما جرى في التجربتين للمقاومة مع ذات الجيش الصهيوني -الذي كان في حالة اجتياح واحتلال أيضا – تظهر طبيعة التطور النوعي في قدرات المقاومة حاليا،وأننا أمام تغيير حقيقي في توازنات الصراع الجاري حول فلسطين.
في الاجتياح الإسرائيلي للمدن والأراضي الفلسطينية بعد فشل مفاوضات كامب ديفيد 2،استخدمت القوات الإسرائيلية الطائرات ثابتة الجناح وطائرات الهليوكبتر والدبابات،كما استخدمت الزوارق الحربية في قصف غزة –وقتها- حتى تمكنت من احتلال المدن الفلسطينية،ووصلت إلى مقر قيادة الرئيس الفلسطيني الشهيد ياسر عرفات وحاصرته لشهور طويلة،إلى أن نفذت إليه لتغتاله بالسم.لقد جرى الهجوم في عدة أيام لم تطل،ووقتها سطر المجاهدون الفلسطينيون ملاحم في المقاومة،كما توقف قوات إسرائيل طويلا دون قدرة على احتلال مخيم جنين الذي شكل واحدة من أهم المعارك في هذا الصراع.لكن القيادة الإسرائيلية تمكنت نتيجة لتلك المعركة من إحداث تغيير في السلطة الفلسطينية وتوجهاتها بعد قتل عرفات بوصول محمود عباس إلى قمة السلطة،لنجد أنفسنا أمام رئيس للسلطة هو الذي يهاجم ويطارد المقاومة وكل المنتمين لفصائلها –بما ذلك شهداء الأقصى-بعد عودة الجيش الصهيوني للسيطرة والاحتلال للمناطق التي كانت تسيطر عليها السلطة،لتظل لا تبرح مكان منها إلا بعد دخول شرطة فلسطينية مهمتها الجوهرية هي مطاردة المقاومين عسكريا وسياسيا وإيداعهم السجون،كما واصلت تلك السلطة لعبة المفاوضات التي سميت في تلك المرحلة مفاوضات أنابوليس.
لكننا في معركة غزة أمام وضع جديد كليا. الجيش الصهيوني أصبح أشد خبرة وأكبر عدة وعتادا بعد تجربته في الاجتياح الأول للأراضي الفلسطينية وفي الحرب اللبنانية من بعد. كما هو يستخدم الآن كل الأدوات القتالية من طائرات مختلفة ودبابات ومدفعية -دخلت قيد الاستخدام مع بدء العمليات البرية – بما يعنى أننا أمام جيش أقوى مما كان في حالة الاجتياح السابق.
وفي المقابل،فإننا نجد أن المقاومة الفلسطينية في غزة،تقاتل في هذه المعركة ضمن حيز محدود ومحاصر هو قطاع غزة،كما هي تقاتل.
النصر والتغيير
لكن وقائع المعركة –رغم كل هذه المعطيات –تشير إلى تحقيق المقاومة نقلة إستراتيجية.في وقائع العدوان، فقد احتاجت القوات إسرائيل إلى أسبوع كامل من القصف بالطائرات والزوارق الحربية وكأننا نتابع وقائع العدوان على العراق لا على غزة -حين قامت القوات الأمريكية بقصف مركز على بغداد لأكثر من أسبوعين قبل الدخول بقواتها البرية.وفى دخول القوات البرية إلى غزة،فقد احتاجت القوات إسرائيل لاستخدام مدافع الميدان،كما أن الدخول والاجتياح لأراضي غزة،قد جرى وفق نظرية احتلال الفراغ أولا،إذ كل الطرق التي سلكتها القوات الإسرائيلية في توغلها داخل غزة،كانت أراضي خالية من السكان ومن مواقع المقاومة التي لا تقيم قواعدها –وفق نظرية عمل المقاومة في كل أنحاء العالم –في مناطق الفراغ السكاني،وإلا تعرضت للإبادة تحت قصف الطائرات والدبابات والمدفعية.كما يلاحظ أن القوات إسرائيل قد احتاجت إلى وقفة تعبوية بعد اليوم الأول لتوغلها في أراضي الفراغ لإعادة تجميع قوتها،وربما انتظارا لعمليات استدعاء آلاف الجنود إذ جرى هذا الاستدعاء فعلا قبل بدء المرحلة الثانية من العمليات البرية.
وفى وقائع المواجهة،فإن المجتمع الفلسطيني في غزة،قد أثبت صبرا وقدرة على تحمل هذا العدوان الإجرامي بكل الأسلحة الإسرائيلية،رغم الحصار والشهداء والجرحى -وكذا رغم الضعف المريع للموقف الرسمي العربي والتآمر الدولي -كما المقاومة في غزة قد تمكنت منذ بداية العدوان وحتى الآن،من المحافظة على نفس معدل إطلاقها للصواريخ على المستعمرات والمدن في إسرائيل،بما يشير إلى تمتعها بالإرادة والتصميم وبالقدرة على مواصلة المقاومة،والأهم أن المقاومة أظهرت قدرة إستراتيجية على إدارة المعركة،كما هو واضح من إدارة المواجهة مع التقدم البرى، إذ أوقعت المقاومة خسائر ليست قليلة بالقوات المتقدمة رغم عدم انجرار المقاومة إلى مواجهة مباشرة مع القوات المتوغلة حتى لا تفقد ميزاتها في القتال.
هنا يبدو الوضع في حسابات نتائج المعركة،هو أن المقاومة نجحت في خوض حرب مباشرة واسعة مع الجيش الصهيوني،وفى ذلك هي تحقق تقدما نوعيا في طبيعة خوض المعركة إذ هي من قبل لم تكن تخوض مثل هذه الحرب الواسعة والمباشرة،كما أن المقاومة تمكنت من جر القوات إسرائيل إلى مواجهة معها هي على الأرض التي تسيطر عليها المقاومة سيطرة كاملة-بفعل أن السلطة والمقاومة أمر واحد دون مواربة أو مناورة -وهو أمر مختلف عن المعارك السابقة في الضفة وغزة خلال الاجتياح السابق،بسبب الوجود العسكري الصهيوني داخل إطار الأرض التحى تجرى عليها المعركة مباشرة وبحكم طبيعة وظرف السلطة خلال العمليات والمعركة السابقة.وكذا فإن المقاومة نجحت في إطالة أمد المعركة وفق إستراتيجية خططت لها هي وهو تحول هام في قدرة المقاومة على خوض حرب مباشرة وطويلة وهو الأشد إنهاكا لقدرة الجيش الصهيوني.وفى ذلك يمكن القول بأن نجاح القوات إسرائيل في احتلال مناطق في غزة هو في حد ذاته أحد تجليات قدرة المقاومة على جر تلك القوات إلى مواجهة تمكنها من مواجهتها على نحو أفضل مما كانت تجرى عليه العمليات من قبل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق