16 مارس 2009

هل يقبل جورج جالوي أن يكون منا بني يَعرُب؟

هل يقبل جورج جالوي أن يكون منا بني يَعرُب؟

د. أسامه محمد أبو نحل

الأستاذ المساعد في التاريخ الحديث والمعاصر

جامعة الأزهر-غزة

جورج جالوي شخصية واقعية نادرة الحدوث في المجتمع الإنساني، عُرِفَ عنه حب العدل والمساواة بين أبناء الجنس البشري على اختلاف مشاربهم ومللهم، وبغضه للعنف وقتل الأنفس البريئة، حتى لو كانت غير منتمية لمذهبه.

هذه الكاريزما وُجدت في وقتٍ كثُر فيه واستفحل الاستكبار من جانب الأقوياء ضد الضعفاء، ومحاولة القوى الكبرى المستكبرة في فرض هيمنتها على الشعوب المغلوبة على أمرها، ونحن بنو يعرُب بطبيعة الحال من تلك الشعوب الأخيرة.

جورج جالوي الذي كان يوماً ما من المتنفذين في حزب العمال الحاكم في بريطانيا، واشتهر بصراحته غير المعهودة عند الآخرين، وجراءته وانتقاداته الساخرة والساخنة لأداء حكومته التي ينتمي إليها، خاصةً في القضايا العربية الجوهرية كالقضية الفلسطينية ومسألة العراق قبيل احتلاله وبعده.

بالنسبة للعراق، وقف جورج جالوي شامخاً كالطودِ، معارضاً سياسة حكومته التي انتهجت نهجاً ممالئاً للسياسة الأمريكية، وطالبها بالتوقف عن هذا النهج خاصةً فيما يتعلق بفرض عقوبات اقتصادية مجحفة بحق الشعب العراقي. وإمعاناً في معارضته لنهج حكومته ضد العراق، قام بعدة محاولات لكسر هذا الطوق المفروض على العراقيين المغلوبين على أمرهم، منها زياراته المتكررة لبغداد، ثم وهو الأهم قيامه بحملة إنسانية لإنقاذ حياة طفلة عراقية تُدعى "مريم"، حشد لها الكثير من التأييد والدعم الدولي.

هذه الحملة الأخيرة أكسبت جالوي الكثير من مظاهر التقدير والاحترام في الشارع العربي، حتى أن بعضاً من هذا الشارع تمنى لو أن هذا الرجل كان ينتسب إليه لا إلى الشارع الإنجليزي المشهور بعشقه لاستعمار الآخرين ومنهم نحن بطبيعة الحال.

ولا نبالغ إذا قلنا أن جالوي غير المسلم، يحمل الكثير من الصفات الإنسانية المفروض أن يكون المسلم ديانةً أولى بحملها، لكن لشديد الأسف، فإن صفات جالوي هذه المبنية على المروءة وإغاثة الملهوف وفوق ذلك كله الكرامة الإنسانية، تفتقر إليها جميع الأنظمة العربية والإسلامية دون استثناء.

فالقارئ لتاريخنا العربي الحديث والمعاصر، والمطلع على قضايانا الجوهرية التي تقضَّ مضاجعنا، لا يجد أحداً من تلك الأنظمة مبالياً بها، والكل يتبع القول المأثور "نفسي نفسي" عند الخوض في إيجاد أي حلٍ لها، حتى لو كانت هذه الحلول على حساب كرامة الأمة. أين هذه الأنظمة مما يجري للشعب الفلسطيني الأعزل، الذي يُفرض عليه سجناً كبيراً لا فكاك للتخلص منه، وأين هذه الأنظمة مما جرى ويجري في العراق من تذويبٍ دراماتيكي وسريع لهويته العربية، لدرجة أن كردياً كجلال الطالباني يُعيّن رئيساً للعراق العربي. وكأني بخلفاء بني العباس في فترة الضعف والهوان يخرجون من قبورهم اليوم ليقولوا لنا: "نحن نجحنا فيما فشلتم أنتم فيه، نحن احتفظنا بالحكم رغم هواننا". نعم نجح الخلفاء العباسيون الضعاف بالاحتفاظ بحكمهم رغم رضوخهم لعناصر غير عربية كالبويهيين الفرس والأتراك المتخلفين حضارياً والذين قدِموا من أواسط آسيا.

ولنعد إلى مثلنا الأعلى جورج جالوي، ليعطينا دروساً وعظات في كيفية أن نكون، لا كيف صرنا. هذا المعلم وقف وقتما بدأت القوات الأمريكية وقوات موطنه البريطانية في دك العراق واحتلاله، موقفاً مشرفاً نبيلاً، فدعا للمظاهرات العارمة في شوارع لندن وغيرها من المدن البريطانية تندد بالحرب وتدعو لإيقافها فوراً، غير مبالٍ بمركزه ومكانته داخل الحزب الحاكم، ووصل به الأمر إلى حد اتهام طوني بلير زعيم حزبه بتوريط البلاد في حربٍ لحساب الولايات المتحدة الأمريكية، كما اتهم بلير نفسه بأنه ذيل للرئيس الأمريكي جورج بوش.

بالله عليكم أيها السادة، لو عقدنا مقارنةً بين ما قام به هذا الرجل وما قامت به الأنظمة العربية من ناحية، والشارع العربي من ناحية أخرى تجاه القضية ذاتها. هل سنجد أدنى وجه شبه ولو بسيطاً. أجزم لا، فالرجل تصرَّف بناءً على ما وهبه الله له من رجولةٍ كاملة الأوصاف تتميز بالإباء والكبرياء. أما الطرف الآخر، أي العربي حكاماً ومحكومين، فهم مساكين تجردوا في غفلةٍ من الزمن من نخوتهم ورجولتهم إلاَّ من رحِمّ ربه، وقطعاً لن نقول أنهم أصبحوا أشبه بالنساء، لأننا بذلك نجحف تلك النسوة العربيات حقهن، حيث يتصف الكثير منهن بالنخوة التي فقدها جلَّ ذكور بني يعرُب.

ولندلل على أن النسوة العربيات غالباً ما تفوقن على رجالهن في هذا المضمار، أنهن كن في الحروب يخرجن مع الرجال لتعضيدهم ومؤازرتهم، عندما يرين من الرجال ما يدعو للتخاذل.

ومجتمعنا العربي اليوم بكل طوائفه وأطيافه السياسية باع كل شيء من قيم وأخلاق من أجل تحقيق مكاسب آنية زائلة دون مراعاة لحق رباط الإخوَّة الذي يربط أوشاجه، وانقلبت المفاهيم لدى هذا المجتمع، فأصبحت النخوة عند رجالاته في كيفية أن يبيع أحدهما أخيه لغريمه الأجنبي لقاء ثمنٍ بخس دنيوي، وفي ذلك حدث ولا حرج. ودفاتر التاريخ المعاصر على الأقل حُبلى بالأمثلة التي لا تخفى على القارئ الكريم. والكرامة أضحت في كيفية إقناع الأخ لأخيه بالتنازل عن موقفه ومبادئه حتى لا يكون جزاءه سلاسلاً وأغلالاً وسعيراً، أما إذا قبِل هذا الأخ بهذه النصيحة فمكافأته ستكون جنَّةَ واشنطن ومساعداتها الاقتصادية الموفورة.

جورج جالوي فقد منصبه وفُصِلَ من عضوية حزب العمال البريطاني جرَّاء شجاعته وكرامته وموقفه النبيل من قضايا مجتمعنا المصيرية لا قضايا مجتمعه هو. تُرى كم مسئول عربي فقد منصبه لقاء مطالبته لبني جنسه بالحفاظ على نخوتهم التي تُعتبر آخر معقل من معاقل الرجولة ؟، وكذلك مطالبته لبني جنسه بالدفاع عن شرف الأمة الممتهن في فلسطين والعراق والسودان ومن قبل في سراييفو عاصمة البوسنة والهرسك وإن لم تكن عربية فهي إسلامية. فصدق فينا قول شاعرنا الكبير نزار قباني في قصيدته "المهرولون":

سقطت آخر جدران الحياء

وفرِحنا..

ورقصنا..

.....................

لم يعد يرعبنا شيء

ولا يخجلنا شيء

فقد يبست فينا عروق الكبرياء...

وبعد عدة أعوام على فصل جالوي من منصبه، شكَّلَ لنفسه حزباً جديداً، تمكن من خلال قيادته له من الحصول على نتائج ملموسة في الانتخابات البرلمانية العامة التي جرت في بريطانيا هذا الشهر (آيار). ولعلَّ أبرز ما حققه جالوي من نجاح في هذه الانتخابات إلحاقه الهزيمة النكراء بفيونا كينج مرشحة حزب العمال عن دائرة "بنتال غرين" والمقربة من بلير.

وموقف جالوي المعارض للحرب على العراق، وعودته بقوة للحلبة السياسية البريطانية وضع طوني بلير في مأزقٍ صعب لعدة أسباب منها:

الأول ـ خسارة حزب بلير العمالي لدائرة بنتال غرين المهمة له.

الثاني ـ انصراف مسلمي بريطانيا عن بلير وتأييدهم الواضح لجالوي في الانتخابات الأخيرة.

الثالث ـ عدم حصول حزب العمال وزعيمه بلير على أغلبية كبيرة في مقاعد البرلمان.

الرابع ـ اتجاه حزب العمال لتعويض هذه الخسارة بإحلال جوردان براون وزير الخزانة مكان بلير في زعامة الحزب، في محاولة لتعويض ما خسره الحزب من شعبية البريطانيين نتيجةً للحرب على العراق.

ولأننا نعرف جالوي جريئاً كالمعتاد، فقد خطب في أنصاره بعد إعلان فوزه وقال لهم "إن الشعب البريطاني سيطارد بلير، ولن يغفر له قرار الحرب على العراق، وقد أكدت وسائل الإعلام البريطانية أن أكبر ضربة وُجهت لبلير خلال الانتخابات جاءته من جورج جالوي.

وبعد، ألاَ يستحق جورج جالوي أن يكون عربياً، نهتدي به في طريقنا المتعثر، نتعلم منه كيفية المحافظة على القيم والمبادئ، وليشحذ عزيمتنا في مواجهة الأعداء، فليس من الضروري أن يكون جالوي من أب عربي خالص لكي يكون عربياً، ويكفيه للحصول على هذه الجنسية المباركة أن يكون خبيراً، نحن في حاجةٍ ماسة لخدماته التي سيقدمها لنا، ألاَ يحدث في عالم كرة القدم أن دولةً ما تمنح لاعباً أجنبي جنسيتها للاستفادة من مهاراته وخبرته؟ ألم يقل المثل العربي المشهور: "رُبَّ أخٍ لك لم تلده أمك"، وقد يكون هذا الأخ غير الشقيق أحرص عليك من أخيك الشقيق، وعالمنا العربي الآن مثالٌ حي لِما نقول. ألاّ يستحق هذا الرجل منا لمسة وفاء فنطلق اسمه على أبرز شوارع العواصم العربية ؟ فقد يدبَّ الحياء في دمنا من جديد عندما نقرأ اسمه، فنقوم قومة رجلٍ واحد لتغيير ما أفسده الدهر فينا.

ويبقى السؤال الأهم، هل يرضى جورج جالوي بحمل جنسيتنا العربية ؟ أشك في ذلك، فقد يُصاب الرجل بالداء نفسه الذي نحمله في دمنا، فتتلوث مسيرته النضالية الطويلة بسببنا. وبعد، ألاَ يحق للشارع العربي بأن ينادي بصدقٍ على رؤوس الأشهاد: أن جورج جالوي منا بني يعرُب.


ليست هناك تعليقات: