المستشار طارق البشري يكتب هذه إمارة شرم الشيخ.. فأين دولة مصر؟
23/01/2009 الدستور
> مبارك حوَّل شرم الشيخ إلي عاصمة يقيم فيها أغلب شهور السنة ويدعو إليها زائريه ويعقد فيها القمم والمؤتمرات.. وتجاهل القاهرة العاصمة الأصلية للبلاد ! لم يجد في العاصمة الأفريقية مكاناً يصلح!
> عقد مؤتمر الاتحاد الأفريقي العام الماضي فعقده في شرم الشيخ التي تقع في آسيا! > تحولت مدينة شرم الشيخ إلي ما يشبه إمارة خليجية انسلخت عن الدولة الأم في كل شيء بدءاً من مواردها الاقتصادية وموقعها الجغرافي وحدودها وفي أمنها القومي!
لكي نفهم ما يجري في بلدنا وما تنتهجه السياسة الرسمية لدينا، علينا أن نستحضر نص خطاب ذكره السيد رئيس الجمهورية فيما ذكر، أمام الهيئة البرلمانية للحزب الوطني الديمقراطي، وهو الحزب الحاكم لأكثر من ثلاثين سنة مضت، وذلك بمناسبة بدء الدورة البرلمانية لمجلسي الشعب والشوري في سنة 2003 - 2004.
جاء هذا الخطاب في 11 نوفمبر سنة 2003 وأذاعه السيد صفوت الشريف الامين العام للحزب بصحيفة الأهرام في 12 نوفمبر في الصفحتين الأولي والثالثة.
تحدث رئيس الجمهورية عن زيادة السكان في مصر ونبه إلي مخاطرها بقوله: «إننا لا نريد يوماً أن نصل إلي تلك الدول التي لا تهتم سوي بنسبة 10% من سكانها، وتترك الآخرين في العشوائيات دون رعاية أو تعليم، نريد أن نحافظ علي مقومات هذا البلد وزيادة مواردنا.. وكان من عناوين الصفحة الثالثة، «.. ولا نريد الوصول إلي مستوي دول لا تهتم سوي بنسبة 10% من سكانها وتترك الآخرين في العشوائيات».
وهكذا، وضعت الحكومة ضمن بدائلها السياسية التي تطرحها أمام نفسها بوصفها القوامة علي شئون المجتمع ألا تهتم بأكثر من 10% من «سكان مصر» وتترك الباقي بغير رعاية، لأن «السكان» أنجبوا كثيرا، وكان مما يتلاءم مع هذا الأمر أن يشار إلي المصريين باعتبارهم «سكاناً»، لأن وصف المواطنة لن يعني في هذه السياسة إلا نسبة 10% فقط.
ونحن في الحقيقة لم يصل إلي معارفنا أن أي حكومة أعلنت لشعبها هكذا جهارا أنها لن تهتم إلا بنسبة 10% وأن تترك باقيهم «بغير رعاية»، ولكن هذا ما حدث وقد أعلن السكان المصريون بهذا الأمر علي صفحات الجرائد واسعة الانتشار وفي عناوين صدر الصفحات.
وبعد ذلك بقي «السكان» يتساءلون في دهشة عجيبة: لماذا تصنع الحكومة كذا ولا تصنع الحكومة كذا ولا تصنع كذا، ولماذا تتخذ هذه السياسة ولا تتخذ سياسة أخري متاحة وممكنة؟ وذلك دون أن يتفكروا في سؤال آخر، وهو هل هذا الصنيع أو هذه السياسة مما ينتج عن اختيار بديل الـ 10%، ومن ثم يتحول أمر 10% من بديل محتمل إلي اختيار تم وينفذ فعلاً، وإلي واقع يجري عملاً.
وعلينا أن نتأمل هذا التصور في التطبيق وفي واقع الحال الذي يدور حولنا، وذلك عندما ننظر في التعليم مثلاً وكيف ترك التعليم العام الذي تديره الحكومة يتهدم ويستشري فيه فساد الدروس الخصوصية، وهو التعليم المعد للشعب المصري بطبقاته الوسطي، ثم ظهرت مدارس خاصة أجنبية لأبناء صفوة الصفوة في المجتمع بمصروفات بالغة الارتفاع لا يقدر عليها أبناء طبقة المهنيين الذين تتكون منهم أجهزة إدارة الدولة ولا فئات ذوي الدخل المحدود من أصحاب الرواتب والأجور والمهايا، وكذلك عندما ننظر في أمر التعليم الجامعي وتهدم أركان الجامعات المصرية ذات التاريخ والشموخ العلمي والرصانة الفكرية، ونشوء أكثر من ست عشرة جامعة أجنبية بمصروفاتها الباهظة، وكذلك الشأن في الصحة ونفقات العلاج، وكذلك عندما تنظر في أسلوب تعامل الحكومة مع حادث مثل غرق العبارة، فإن كل خسائر العبارة من أرواح إنما ينتمي لا إلي نسبة 10%، ولكن إلي غيرهم من السكان، فلم يكن ثمة اهتمام بالأمر يتناسب مع ما ظننا أنه يستأهله وكذلك الشأن بالنسبة لحادث صخرة الدويقة التي ردمت تحتها من أجساد البشر أفراداً وأسراً بكاملها مالم يعتن أحد حتي بإحصائهم، ثم مسألة الخبز نوعا وجودة وشحا ووجودا، وهل هو مما يناسب غذاء البشر أم يقف عند حدود علف البهائم، وهذا كله وغيره من تطبيقات «ترك الآخرين في العشوائيات دون رعاية»، لأن الحكومة يمكن أن تكتفي بنسبة 10% من السكان كما أعلنت.
لسنا في مجال متابعة التطور التاريخي للدولة المصرية وتصوراتها علي مدي الثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين والعشر الأوائل من القرن الحالي، ولكن يمكن القول بإيجاز شديد إن وضع الدولة المصرية الآن وبعد تردد شديد وأخذ وجذب متتالتين علي مدي الثمانينيات والتسعينيات، حُسمت الأوضاع بداخلها لصالح هذا البديل، بديل الاكتفاء باهتمام الدولة بنسبة 10% من «السكان»، وذلك من نهايات سنة 1999 بالتعديل الوزاري الذي جري في أكتوبر 1999 وتعيين الدكتور عاطف عبيد رئيساً للوزراء، وهو كان مسيطراً علي قطاع الأعمال العام منذ 1991 عندما صدر القانون رقم 203 لسنة 1991، وسيطر علي أكثر من ثلاثمائة شركة إنتاج صناعي وزراعي وتجاري وسياحي وغيره، وأدت سياسته المنفذة غير المعلنة إلي ما أصاب هذا القطاع من توقف الأعمال وفقد العمالة الماهرة والخروج من الأسواق وتراكم المديونيات وغير ذلك وكان تولي الوزارة منبئاً عن سيادة هذا الاتجاه السياسي في إدارة شئون البلاد توطئة للبيع وإكمال تفكيك الأبنية الإدارية للهيئات والمؤسسات والشركات وغيرها.
وجاء خطاب الهيئة البرلمانية سالف الذكر في 11 نوفمبر 2003 في ظل هذا الوضع الذي ساد وسيطر وحده في قمة الدولة، ثم تلاه بعد ثمانية أشهر تعديل وزاري رأس فيه الوزارة الدكتور أحمد نظيف في 10 يوليو سنة 2004 ومعه الطاقم الذي نشهده حالياً، والذي قام ويقوم بتنفيذ هذه السياسة التي تبلورت علي مدي السنوات الأربع السابقة منذ 2000 وأعلنت في 2003.
وقد طرحت للتنفيذ الفعلي والسريع هذا المشروع، ومارست وتمارس ما أظنه مفاصلة تامة مع ما لا يقل عن نسبة 90% من «السكان»، أو بعبارة أدق أنها تمارس سياسة لا تفهم إلا علي أساس أنها تتبع هذه المفاصلة، وطرحت ما سمته ببيع أصول مصر، من شركات ومصانع سبق توقيفها ومرافق سبق تعطيلها وأراض ومستشفيات وفنادق كان لحقها البوار، وذلك لتدخل الملكية العامة الثابتة بنسبة 90% من «السكان» في نطاق المال المملوك للجماعة السياسية الجديدة، جماعة نسبة 10% أو أقل حسبما قرر هذا الوضع الجديد.
وهكذا يجري الأمر، فرز وتجنيب ثم مفاصلة، ونحن لا نعرف حقيقة النسب، وهل هي 10% أو أقل؟ ومن يقدر علي إجراء الفرز يستطيع أن يحدد ما يريد وما يحتمل من نسب قد تكون أقل، ومن لم يخش من 90% لن يخشي أيضا من 95% من «السكان».
ولكننا هنا نقيد أنفسنا بما قيل عيانا جهارا بياناً نهاراً لندرك كيف يفكر المسئولون وبأي تصور سياسي يديرون الأمور؟
لقد كان من أهم العقبات التي تواجه تنفيذ هذا التصور هو التركيب العضوي لجهاز إدارة الدولة، المدني والخدمي والاقتصادي والعسكري والأمني، لأن جهاز إدارة الدولة في مصر إنما يتكون من عينة مصرية لا تميز أهل إقليم علي آخر ولا أهل طائفة علي أخري ولا أهل مذهب ولا أهل قبيلة أو أسرة، لما تتمتع به مصر من امتزاج شعبي نادر الحدوث في مجتمعات أخري كثيرة، وما يدعو للتساؤل هو كيف يجري الإعداد العضوي والثقافي والطبقي لجماعة محدودة تدير شأن هذه النسبة المتصورة للجماعة السياسية المصغرة المختارة نسبة الـ 10%، ولكي تنمحي النظرة الشاملة التي اعتادها العاملون بجهاز إدارة الدولة وتحل محلها نظرة محصورة لجماعة محصورة في هذا النطاق الضيق.
لقد جري ذلك عبر التسعينيات من القرن العشرين، وكنت أشرت إليه في كتابات سابقة، وذلك بتفكيك المجتمع وجهاز إدارة الدولة، فلم يعد أي مكون من مكونات المجتمع أو جهاز الدولة قادرا علي معارضة سلطات رئيس الدولة بوصفه فردا يتربع في أعلي السلطة، ولا قادرا علي الممانعة لأي سياسة تتخذ حتي إن كانت ضد هيئات الدولة ومؤسساتها ذاتها.
ذلك إنه أعيدت هيكلة نظم التوظيف في الدولة في بدايات التسعينيات بحيث صارت وكأن جميع القيادات في الدولة وظائف مؤقتة تمد سنة بسنة أو سنتين أو ثلاث بمثل مدتها، وسواء في ذلك الوظائف القيادية في أجهزة الدولة المعنية المتعلقة بالسيادة وبالخدمات، وأجهزتها في قطاع الأعمال الاقتصادي أو في الجيش أو في الشرطة، وأدي ذلك إلي أن تحول أي من هذه القيادات من ذوي مركز قانوني يكفل لهم قدرا من الضمانات في البقاء في عملهم وقدرا من الاستغلال في اتخاذ القرار وإبداء الرأي الفني والمهني، تحولوا من ذلك إلي مجرد تابعين لمن يعلونهم سواء وزيراً أو رئيس جمهورية، إن لم يأتمروا بالأوامر فسيسقطون كأوراق الشجر الذابلة بغير حاجة إلي فصل.
يضاف إلي ذلك أن أجر أي وظيفة كان يكفي صاحبها، كفالة لضرورياته هو وأسرته وفق المستوي الاجتماعي للشريحة الاجتماعية التي تحيط به، وكان لوظيفته ولأجره منها من الضمانات القانونية والقضائية ما يكفل تأمين العامل، ثم حدث أن زادت الأسعار علي مدي العقدين الماضيين بما يفوق زيادة الرواتب أضعافا مضاعفة، فلم يعد أي راتب يكفي صاحبه وأسرته ضرورات عيشهم، وألجأ هذا الوضع العاملين إلي البحث عن مورد آخر مكمل، فانحرفت قلة ووجدت في الفساد وأساليبه مغنما، والأغلبية بحث أفرادها عن عمل آخر إضافي مكمل، فتوزع انتماؤهم بين عملهم الأصلي وعملهم الإضافي، ولأن العمل المكمل يكون لقاء أجر غير ثابت بغير ضمانات قانونية، فقد صار هو ما يخشي عليه العامل ويوليه اهتمامه الأكبر، وذلك علي حساب عمله الأصلي، وشيوع هذا الأمر بين العاملين من شأنه انهيار المؤسسة الأصلية التي يعملون بها لانصراف العاملين فيها عن مدِّها بالقدر الأهم من أنشطتهم واهتماماتهم.
يضاف إلي ذلك أن أي مؤسسة إنما تنشأ بوصفها تشكيلاً نظامياً يضم من الخبرات والمهارات ما يتفق مع نوع نشاطها، وهي في عملها تكتسب خبرات متزايدة بما يضاف إلي رجالها من تجارب وما يؤدونه من أعمال، فإذا توقفت فقد فقدت هذا النبع من الخبرات ولحقها من الصدأ ما يلحق الآلات التي لا تعمل، والحاصل أن كثيرا من الأجهزة والمؤسسات في الدولة وقطاع الأعمال قد توقف عن أداء عمله المنوط به في هذين العقدين الأخيرين، لأنه لم يعد ثمة خطة اقتصادية تتبع ولا مشروعاً وطنياً ينفذ ولا خدمة اجتماعية تؤدي بجدية ولا مالاً ينفق بما يكفي أيا من ذلك.
وانصرف العاملون ذوو الخبرة عن أعمالهم، وكذلك الشأن إذا ارتبط بأي مؤسسة ما يجاوز أصل تخصصها وما أعدت من أجله.
هذا من ناحية تفكك أجهزة إدارة الدولة ومؤسساتها، أما من ناحية هيئات المجتمع الأهلي مثل النقابات والاتحادات وغيرها، أو الهيئات الرسمية ذات الاستقلال الذاتي كالجامعات، فقد جرت في كل ذلك تعديلات في القوانين بما يفقد أيا منها درجة استقلاله الذاتي مثلما حدث بالنسبة للجامعات، وكذلك صدرت قوانين واتبعث إجراءات كان من شأنها تفكيك الهيئات ذات التماسك كالنقابات المهنية أو السيطرة الكاملة الأمنية علي الهيئات الأخري كالنقابات العمالية واتحادات الطلبة، ولا أريد أن استطرد في ذكر التفاصيل حرصاً علي الوقت والمساحة، وحرصاً علي سرعة بلوغ المسألة التي أريد إيضاحها.
والحال أن القوة الاجتماعية والسياسية ترد من العمل الجماعي لا من الجهود الفردية، وهي ترد من العمل الجمعي المشمول بتشكيل تنظيمي، ولا فعل إلا بقوة ولا رد فعل إلا بقوة، ولا تأثير إلا بقوة ولا ممانعة إلا بقوة، والحال أيضا أن الحركة الاجتماعية والسياسية لا تنفذ بآثارها إلا بهذه القوة الجماعية المنظمة، وأن أي حراك شعبي أو جمعي من أي نوع وفي أي مجال يرد بغير قوة منظمة وإنما يكون حراكا عشوائيا ما يلبث أن يتفرق شعاعاً وأن يتشتت بددًا لا يبقي له أثر يذكر، لذلك فإن التنظيم هو ما يكون عليه المعول في حساب القوي وإدراك الآثار المتفاعلة في المجتمع للجماعات والفرق المختلفة.
ومن هنا ندرك مغزي ما سبق ذكره عن التفكك الحادث، وندرك أي خسارة فادحة لحقتنا من جراء هذه السياسة التي اتبعت منذ التسعينيات بشكل منظم وآتت بنتائجها المدمرة من نهاية التسعينيات حتي اليوم، إذا ننظر إلي أنفسنا اليوم فنجد أنفسنا ساخطين دون همة، وغاضبين دون عزم، وأن السخط والغضب يأتي منهما الوعي بالسوء والقبح والفساد، أما الهمة والحزم فيأتي بهما التشكيل التنظيمي للساخطين والغاضبين، وأنا لا أقصد هنا فقط انفكاك التنظيمات الشعبية والأهلية، ولكن أقصد أيضاً انفكاك تنظيمات الدولة فيما عدا ما يقوم علي الأمن السياسي للنظام الحاكم، ومن هنا نلحظ هذا الوهن العجيب، فننظر إلي الجماعة الحاكمة فنراها لا تعرف كيف تحكم ونراها واهنة العزم خائرة القوة إلا فيما يتعلق بمنع المظاهرات، ثم ننظر إلي المعارضة فنراها تقف عند حدود التعبير الكلامي عن المواقف وعند حدود الإدراك الصحيح الصائب لما يتعين أن يقوم، ولكنها لا تستطيع أن تحول هذه الرؤية إلي قدرة تغيير فعلي.
لقد حدث في مصر علي مدي الثلاثين سنة الماضية ما حدث في العراق علي مدي السنوات الخمس الماضية، نحن دائماً في مصر نجري التغييرات بالأسلوب «السلمي المشروع البطيء» والتعديلات الهيكلية الجزئية البطيئة التي تتراكم، وهم دائماً في العراق تجري التغييرات بالأسلوب العنيف السريع، سواء كان التغيير للأحسن أو للأسوأ.
في مصر خضعت الإرادة الوطنية للدولة لإملاء الهيمنة الأمريكية عليها، خضعت بالتدريج وكمل ذلك علي مدي عشر سنوات أو أكثر، وفي العراق أجري ذلك بعملية احتلال عسكري أمريكي سريع وتعيين حكومة موالية «للأمريكيين».
في مصر تحطم النظام الاقتصادي الوطني المستقل علي مدي ربع القرن وصار إلي التبعية للهيمنة الدولية، وفي العراق جري هذا التحول في أشهر قليلة بعد الاحتلال العسكري الأمريكي، وفي مصر تعطلت المصانع ــ مصانع القطاع العام ــ بالترك العمد والإهمال المقصود علي مدي نحو خمس عشرة سنة وفي العراق جري ذلك في شهور أيضاً، وبالنسبة لجهاز إدارة الدولة في مصر فقد جري تفكيكه وجرت العملية من أوائل التسعينيات، وتمت ذات العملية بالتدمير السريع في العراق فور دخول القوات الأمريكية، أما من حيث الخسائر البشرية فهي في العراق تحدث بالرصاص والتفجيرات، وفي مصر تحدث بغرق العبارات وتصادم القطارات والحافلات وسقوط الصخر علي البشر أي بالطريق السلمي المشروع، والنتيجة أن المجتمع مفكك والدولة مفككة وأن القوة النظامية الوحيدة وهي شرطة الأمن السياسي، لم تعد حافظة لحكومة القلة فقط، ولكنها حافظة أيضاً لوضع التفكك الذي يضمن بقاء هذه القلة. وقد شكلت أجهزة الإدارة التي تناسب المجتمع الجديد المصغر، فتفتق الحزب الوطني عن لجنة السياسات، وجرت السيطرة علي بنوك القطاع العام بطاقته التمويلية عن طريق كوادر جديدة، ومع تغير الوزارة، نشأت حول كل مجموعة شباب، اختير بغير خبرة سابقة في أجهزة الدولة وبرواتب ضخمة جدا، وكل ذلك بعقود مؤقتة حلت محل الوظائف الثابتة حتي لا يكون لأحد قدرة علي الاعتراض.
هذا هو الوضع السياسي والاجتماعي والتنظيمي الذي يتناسب مع تحقيق مجتمع الــ 10% المعلن عنه، وقد يعمل العاملون علي تخفيفه بنسبة أقل من ذلك كثيرا، فنحن لا نعرف النوايا، ولكن المهم هو الإشارة إلي ما هي خصائص هذا المجتمع التي يمكن أن نستقرئها من الواقع الحالي ومن متابعة الأحداث الجارية. فنحن نلحظ مثلاً أن القاهرة لم تعد هي المدينة التي تمارس فيها فعلاً حكومة البلاد ولم تعد مقرًا لحاكم مصر الفرد القائم علي أزمة أمور البلد والمقرر لسياستها فيما كبر أو صغر من الشئون، صار مقره الدائم أو الذي يقيم فيه عادة هو مدينة شرم الشيخ علي شاطئ خليج العقبة جنوب شبه جزيرة سيناء وصارت هي المقر الذي يقابل فيه رجال الدولة ويعقد فيه اجتماعاته مع رؤساء وممثلي الدول الأجنبية وهو مكان عقد فيه ما يسمي بلقاءات القمة وبلغ من اطراد هذا الأمر والاعتياد عليه أن المؤتمر الدولي للاتحاد الأفريقي الذي ينعقد بحضور رؤساء الدول الأفريقية كان انعقاده الأخير السنة الماضية في شرم الشيخ رغم أن شرم الشيخ في آسيا وليست في أفريقيا بما يعني أن مؤتمر قمة الاتحاد الأفريقي لم تجد له حكومة مصر في أرضها الأفريقية الفسيحة مكانا لانعقاده فانعقد في آسيا.
وأن شرم الشيخ التي تمارس فيها وظائف العاصمة هي في الجزء الشرقي من سيناء وهو الجزء منزوع السلاح المصري بنص الاتفاقية المصرية - الإسرائيلية وهي ليست تحت سيطرة القوات المسلحة المصرية فمحظور علي مصر بموجب هذه الاتفاقية أن تتواجد فيها قوة من قوات مصر المسلحة، وهذا يعني أن أقرب القوات المسلحة لشرم الشيخ بحكم التواجد وبحكم إمكان التواجد الدولي المتاح هي القوات المسلحة الإسرائيلية براً وجواً وبحراً وهذا يذكرنا تاريخياً بوضع السلطان «محمد وحيد الدين» سلطان الدولة العثمانية الأخير بعد الحرب العالمية الأولي إذ كانت إقامته في اسطنبول وكانت تحيط به القوات الأجنبية المنتصرة علي تركيا في تلك الحرب وهذا ما من أجله نقل «كمال أتاتورك» العاصمة إلي أنقرة في قلب بلده وفي وسط الأناضول.
إن كان هذا هو شأن المدينة التي تمارس فيها الدولة مهام العاصمة في هذا الوضع الجديد وهي بعيدة عن وادي النيل الذي يسكنه ما جري التعبير عنه بأنه 90% من السكان فما هو شأن التمويل إننا نعلم أن ميزانية الدولة تمول بمصادر إيراد يرد من شئون المصريين كلهم، مما ينتج عن الزراعة في وادي النيل وعن المصانع التي تنتشر علي طول مدن الوادي وأرضه ومن عمل العاملين المصريين عمالاً وموظفين ومهنيين وحرفيين ومن ضرائب استهلاك هؤلاء جميعاً فكيف يمكن الاستغناء «بقدر الإمكان» عن هؤلاء بوصفهم مصادر إنتاج واستهلاك وعمل وغيره، إن تمويل هذه الإدارة الجديدة للدولة في وضعها المصغر يمكن أن يأتي من دخل البترول والغاز وهو مبلغ يدور حول 9 مليارات ودخل قناة السويس وهو يدور 4 مليارات وعوائد المصريين المقيمين بالخارج وهو يدور حول 6 مليارات ثم السياحة وهي تدور حول 8 مليارات وكل هذه الدخول لا تحتاج إلي وادي النيل في مصر وهو موطن أكثر من 90% من السكان ولا تنتج في الأساس عن أنشطة إنتاجية خاصة بسكان هذا الوادي وهم يزيدون علي 90% من السكان وحتي النشاط السياحي صار جزءاً غالباً فيه يرد من سياحة شواطئ البحر الأحمر وليس من أرض الوادي ولا من آثار هذا الوادي.
ونحن هنا أمام مداخيل اقتصادية تتشابه إلي حد ما مع مداخيل إمارات الخليج العربي وأن الاعتماد الأساسي عليها في تشكيل دولة الــ 10% يحيل الدولة إلي إمارة شبه خليجية والفارق أن إمارة شرم الشيخ تقع علي الشاطئ الغربي للجزيرة العربية بينما تقع قريناتها علي الشاطئ الشرقي لشبه الجزيرة وإماراتنا قد تحتاج إلي بعض عمالة تأتيها من وادي النيل، خاصة في شأن الخدمات وفي شأن حفظ الأمن وهذا من الصفات الشبيهة بصفات تجدها في إمارات الخليج التي تعتمد علي عمالة تأتيها من خارجها ولأنها إمارة تعتمد علي الدخل الريعي وليس الدخل الإنتاجي فهي لا تحتاج إلي فلاحين ولا إلي عمال، يكفيها خبراء في الإدارة وموظفين صغار وخدمة كما يكفيها من القوات الحامية لها قوة الشرطة علي أن تكون هذه القوة شديدة البأس صعبة المراس ذات بطش وقسوة.
وأن نظرية الأمن القومي لهذه الإمارة لابد أن تكون مختلفة تماماً عن مثيلاتها الخاصة بمصر التي نعرفها أو بعبارة أخري عن باقي مصر الذي نعرفه وهذا الباقي من مصر الذي يشكل 90% أو أكثر هو أرض وادي النيل والذي لم يعد وطناً مشمولاً بالرعاية وما عليه من بشر هم سكان وليسوا شعباً بالمعني الذي يعرفه القانون الدولي العام، إن ثمة إمارة انسلخت من الدولة الأم وأخذت اسمها ووصفها القانوني ومركزها الدولي وأن أي دولة منسلخة تختلف نظرتها إلي أمنها القومي عن النظرية السائدة لدي الدولة الأم بل هي تكون ضد هذه النظرية لذلك فإن الجزء المنسلخ يعتبر الدولة الأم عدوه الأول والأكبر ومصدر الخطر الدائم عليه ومتي تعين العدو الأول، فقد تعين أيضاً الحليف الأول وهو عدو العدو، والإمارة المنسلخة في هذا التصور لا تجد حليفاً لها إلا من كان يخشاه الوطن الأم ويعتبره خصماً له وخطرا عليه، من هنا نفهم الموقف الأخير الذي كشفت عنه أحداث غزة الأخيرة في ديسمبر 2008، كما نفهم هذه السياسة التي قامت وهي سياسة تمارس وتطبق ضمنا وعلانية وسراً وجهراً وهي أن ثمة تحالفاً استراتيجياً يقوم بين الحكومة الحاضرة والولايات المتحدة الأمريكية وليس من الممكن فهم هذه السياسة إذا نظرنا إلي الأمر بوصفه علاقة بين مصر والولايات المتحدة، لأن الولايات المتحدة ومعها إسرائيل شنت علي هذه المنطقة من الحروب ولا تزال تفعل ما يجعلنا نراها عدوانا مستمراً من الجانب الأمريكي الصهيوني علينا.
إنما يُفهم الأمر إذا نظرنا إليه باعتباره وصفاً للعلاقة بين الولايات المتحدة وإسرائيل من جهة وبين الإمارة المنسلخة من مصر، إمارة الــ 10% أو أقل من السكان، من جهة أخري.
أمامنا مهمة كبيرة، أن نعيد مصر إلي الوجود بإذن الله تعالي فنجمع ما تفرق ونركب ما تفكك وأن نرمم أبنيتها الإدارية المتصدعة وأن نجبر ما تكسر من عظامها هذا بالنسبة لأجهزة إدارة الدولة، أما بالنسبة للتنظيمات الشعبية والأهلية فأمامنا مهمة الإعداد الجديد لتنظيمات جديدة علي كل مستويات العمل الشعبي والأهلي النقابي وغير النقابي والجمعيات والاتحادات وغيرها.
23/01/2009 الدستور
> مبارك حوَّل شرم الشيخ إلي عاصمة يقيم فيها أغلب شهور السنة ويدعو إليها زائريه ويعقد فيها القمم والمؤتمرات.. وتجاهل القاهرة العاصمة الأصلية للبلاد ! لم يجد في العاصمة الأفريقية مكاناً يصلح!
> عقد مؤتمر الاتحاد الأفريقي العام الماضي فعقده في شرم الشيخ التي تقع في آسيا! > تحولت مدينة شرم الشيخ إلي ما يشبه إمارة خليجية انسلخت عن الدولة الأم في كل شيء بدءاً من مواردها الاقتصادية وموقعها الجغرافي وحدودها وفي أمنها القومي!
لكي نفهم ما يجري في بلدنا وما تنتهجه السياسة الرسمية لدينا، علينا أن نستحضر نص خطاب ذكره السيد رئيس الجمهورية فيما ذكر، أمام الهيئة البرلمانية للحزب الوطني الديمقراطي، وهو الحزب الحاكم لأكثر من ثلاثين سنة مضت، وذلك بمناسبة بدء الدورة البرلمانية لمجلسي الشعب والشوري في سنة 2003 - 2004.
جاء هذا الخطاب في 11 نوفمبر سنة 2003 وأذاعه السيد صفوت الشريف الامين العام للحزب بصحيفة الأهرام في 12 نوفمبر في الصفحتين الأولي والثالثة.
تحدث رئيس الجمهورية عن زيادة السكان في مصر ونبه إلي مخاطرها بقوله: «إننا لا نريد يوماً أن نصل إلي تلك الدول التي لا تهتم سوي بنسبة 10% من سكانها، وتترك الآخرين في العشوائيات دون رعاية أو تعليم، نريد أن نحافظ علي مقومات هذا البلد وزيادة مواردنا.. وكان من عناوين الصفحة الثالثة، «.. ولا نريد الوصول إلي مستوي دول لا تهتم سوي بنسبة 10% من سكانها وتترك الآخرين في العشوائيات».
وهكذا، وضعت الحكومة ضمن بدائلها السياسية التي تطرحها أمام نفسها بوصفها القوامة علي شئون المجتمع ألا تهتم بأكثر من 10% من «سكان مصر» وتترك الباقي بغير رعاية، لأن «السكان» أنجبوا كثيرا، وكان مما يتلاءم مع هذا الأمر أن يشار إلي المصريين باعتبارهم «سكاناً»، لأن وصف المواطنة لن يعني في هذه السياسة إلا نسبة 10% فقط.
ونحن في الحقيقة لم يصل إلي معارفنا أن أي حكومة أعلنت لشعبها هكذا جهارا أنها لن تهتم إلا بنسبة 10% وأن تترك باقيهم «بغير رعاية»، ولكن هذا ما حدث وقد أعلن السكان المصريون بهذا الأمر علي صفحات الجرائد واسعة الانتشار وفي عناوين صدر الصفحات.
وبعد ذلك بقي «السكان» يتساءلون في دهشة عجيبة: لماذا تصنع الحكومة كذا ولا تصنع الحكومة كذا ولا تصنع كذا، ولماذا تتخذ هذه السياسة ولا تتخذ سياسة أخري متاحة وممكنة؟ وذلك دون أن يتفكروا في سؤال آخر، وهو هل هذا الصنيع أو هذه السياسة مما ينتج عن اختيار بديل الـ 10%، ومن ثم يتحول أمر 10% من بديل محتمل إلي اختيار تم وينفذ فعلاً، وإلي واقع يجري عملاً.
وعلينا أن نتأمل هذا التصور في التطبيق وفي واقع الحال الذي يدور حولنا، وذلك عندما ننظر في التعليم مثلاً وكيف ترك التعليم العام الذي تديره الحكومة يتهدم ويستشري فيه فساد الدروس الخصوصية، وهو التعليم المعد للشعب المصري بطبقاته الوسطي، ثم ظهرت مدارس خاصة أجنبية لأبناء صفوة الصفوة في المجتمع بمصروفات بالغة الارتفاع لا يقدر عليها أبناء طبقة المهنيين الذين تتكون منهم أجهزة إدارة الدولة ولا فئات ذوي الدخل المحدود من أصحاب الرواتب والأجور والمهايا، وكذلك عندما ننظر في أمر التعليم الجامعي وتهدم أركان الجامعات المصرية ذات التاريخ والشموخ العلمي والرصانة الفكرية، ونشوء أكثر من ست عشرة جامعة أجنبية بمصروفاتها الباهظة، وكذلك الشأن في الصحة ونفقات العلاج، وكذلك عندما تنظر في أسلوب تعامل الحكومة مع حادث مثل غرق العبارة، فإن كل خسائر العبارة من أرواح إنما ينتمي لا إلي نسبة 10%، ولكن إلي غيرهم من السكان، فلم يكن ثمة اهتمام بالأمر يتناسب مع ما ظننا أنه يستأهله وكذلك الشأن بالنسبة لحادث صخرة الدويقة التي ردمت تحتها من أجساد البشر أفراداً وأسراً بكاملها مالم يعتن أحد حتي بإحصائهم، ثم مسألة الخبز نوعا وجودة وشحا ووجودا، وهل هو مما يناسب غذاء البشر أم يقف عند حدود علف البهائم، وهذا كله وغيره من تطبيقات «ترك الآخرين في العشوائيات دون رعاية»، لأن الحكومة يمكن أن تكتفي بنسبة 10% من السكان كما أعلنت.
لسنا في مجال متابعة التطور التاريخي للدولة المصرية وتصوراتها علي مدي الثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين والعشر الأوائل من القرن الحالي، ولكن يمكن القول بإيجاز شديد إن وضع الدولة المصرية الآن وبعد تردد شديد وأخذ وجذب متتالتين علي مدي الثمانينيات والتسعينيات، حُسمت الأوضاع بداخلها لصالح هذا البديل، بديل الاكتفاء باهتمام الدولة بنسبة 10% من «السكان»، وذلك من نهايات سنة 1999 بالتعديل الوزاري الذي جري في أكتوبر 1999 وتعيين الدكتور عاطف عبيد رئيساً للوزراء، وهو كان مسيطراً علي قطاع الأعمال العام منذ 1991 عندما صدر القانون رقم 203 لسنة 1991، وسيطر علي أكثر من ثلاثمائة شركة إنتاج صناعي وزراعي وتجاري وسياحي وغيره، وأدت سياسته المنفذة غير المعلنة إلي ما أصاب هذا القطاع من توقف الأعمال وفقد العمالة الماهرة والخروج من الأسواق وتراكم المديونيات وغير ذلك وكان تولي الوزارة منبئاً عن سيادة هذا الاتجاه السياسي في إدارة شئون البلاد توطئة للبيع وإكمال تفكيك الأبنية الإدارية للهيئات والمؤسسات والشركات وغيرها.
وجاء خطاب الهيئة البرلمانية سالف الذكر في 11 نوفمبر 2003 في ظل هذا الوضع الذي ساد وسيطر وحده في قمة الدولة، ثم تلاه بعد ثمانية أشهر تعديل وزاري رأس فيه الوزارة الدكتور أحمد نظيف في 10 يوليو سنة 2004 ومعه الطاقم الذي نشهده حالياً، والذي قام ويقوم بتنفيذ هذه السياسة التي تبلورت علي مدي السنوات الأربع السابقة منذ 2000 وأعلنت في 2003.
وقد طرحت للتنفيذ الفعلي والسريع هذا المشروع، ومارست وتمارس ما أظنه مفاصلة تامة مع ما لا يقل عن نسبة 90% من «السكان»، أو بعبارة أدق أنها تمارس سياسة لا تفهم إلا علي أساس أنها تتبع هذه المفاصلة، وطرحت ما سمته ببيع أصول مصر، من شركات ومصانع سبق توقيفها ومرافق سبق تعطيلها وأراض ومستشفيات وفنادق كان لحقها البوار، وذلك لتدخل الملكية العامة الثابتة بنسبة 90% من «السكان» في نطاق المال المملوك للجماعة السياسية الجديدة، جماعة نسبة 10% أو أقل حسبما قرر هذا الوضع الجديد.
وهكذا يجري الأمر، فرز وتجنيب ثم مفاصلة، ونحن لا نعرف حقيقة النسب، وهل هي 10% أو أقل؟ ومن يقدر علي إجراء الفرز يستطيع أن يحدد ما يريد وما يحتمل من نسب قد تكون أقل، ومن لم يخش من 90% لن يخشي أيضا من 95% من «السكان».
ولكننا هنا نقيد أنفسنا بما قيل عيانا جهارا بياناً نهاراً لندرك كيف يفكر المسئولون وبأي تصور سياسي يديرون الأمور؟
لقد كان من أهم العقبات التي تواجه تنفيذ هذا التصور هو التركيب العضوي لجهاز إدارة الدولة، المدني والخدمي والاقتصادي والعسكري والأمني، لأن جهاز إدارة الدولة في مصر إنما يتكون من عينة مصرية لا تميز أهل إقليم علي آخر ولا أهل طائفة علي أخري ولا أهل مذهب ولا أهل قبيلة أو أسرة، لما تتمتع به مصر من امتزاج شعبي نادر الحدوث في مجتمعات أخري كثيرة، وما يدعو للتساؤل هو كيف يجري الإعداد العضوي والثقافي والطبقي لجماعة محدودة تدير شأن هذه النسبة المتصورة للجماعة السياسية المصغرة المختارة نسبة الـ 10%، ولكي تنمحي النظرة الشاملة التي اعتادها العاملون بجهاز إدارة الدولة وتحل محلها نظرة محصورة لجماعة محصورة في هذا النطاق الضيق.
لقد جري ذلك عبر التسعينيات من القرن العشرين، وكنت أشرت إليه في كتابات سابقة، وذلك بتفكيك المجتمع وجهاز إدارة الدولة، فلم يعد أي مكون من مكونات المجتمع أو جهاز الدولة قادرا علي معارضة سلطات رئيس الدولة بوصفه فردا يتربع في أعلي السلطة، ولا قادرا علي الممانعة لأي سياسة تتخذ حتي إن كانت ضد هيئات الدولة ومؤسساتها ذاتها.
ذلك إنه أعيدت هيكلة نظم التوظيف في الدولة في بدايات التسعينيات بحيث صارت وكأن جميع القيادات في الدولة وظائف مؤقتة تمد سنة بسنة أو سنتين أو ثلاث بمثل مدتها، وسواء في ذلك الوظائف القيادية في أجهزة الدولة المعنية المتعلقة بالسيادة وبالخدمات، وأجهزتها في قطاع الأعمال الاقتصادي أو في الجيش أو في الشرطة، وأدي ذلك إلي أن تحول أي من هذه القيادات من ذوي مركز قانوني يكفل لهم قدرا من الضمانات في البقاء في عملهم وقدرا من الاستغلال في اتخاذ القرار وإبداء الرأي الفني والمهني، تحولوا من ذلك إلي مجرد تابعين لمن يعلونهم سواء وزيراً أو رئيس جمهورية، إن لم يأتمروا بالأوامر فسيسقطون كأوراق الشجر الذابلة بغير حاجة إلي فصل.
يضاف إلي ذلك أن أجر أي وظيفة كان يكفي صاحبها، كفالة لضرورياته هو وأسرته وفق المستوي الاجتماعي للشريحة الاجتماعية التي تحيط به، وكان لوظيفته ولأجره منها من الضمانات القانونية والقضائية ما يكفل تأمين العامل، ثم حدث أن زادت الأسعار علي مدي العقدين الماضيين بما يفوق زيادة الرواتب أضعافا مضاعفة، فلم يعد أي راتب يكفي صاحبه وأسرته ضرورات عيشهم، وألجأ هذا الوضع العاملين إلي البحث عن مورد آخر مكمل، فانحرفت قلة ووجدت في الفساد وأساليبه مغنما، والأغلبية بحث أفرادها عن عمل آخر إضافي مكمل، فتوزع انتماؤهم بين عملهم الأصلي وعملهم الإضافي، ولأن العمل المكمل يكون لقاء أجر غير ثابت بغير ضمانات قانونية، فقد صار هو ما يخشي عليه العامل ويوليه اهتمامه الأكبر، وذلك علي حساب عمله الأصلي، وشيوع هذا الأمر بين العاملين من شأنه انهيار المؤسسة الأصلية التي يعملون بها لانصراف العاملين فيها عن مدِّها بالقدر الأهم من أنشطتهم واهتماماتهم.
يضاف إلي ذلك أن أي مؤسسة إنما تنشأ بوصفها تشكيلاً نظامياً يضم من الخبرات والمهارات ما يتفق مع نوع نشاطها، وهي في عملها تكتسب خبرات متزايدة بما يضاف إلي رجالها من تجارب وما يؤدونه من أعمال، فإذا توقفت فقد فقدت هذا النبع من الخبرات ولحقها من الصدأ ما يلحق الآلات التي لا تعمل، والحاصل أن كثيرا من الأجهزة والمؤسسات في الدولة وقطاع الأعمال قد توقف عن أداء عمله المنوط به في هذين العقدين الأخيرين، لأنه لم يعد ثمة خطة اقتصادية تتبع ولا مشروعاً وطنياً ينفذ ولا خدمة اجتماعية تؤدي بجدية ولا مالاً ينفق بما يكفي أيا من ذلك.
وانصرف العاملون ذوو الخبرة عن أعمالهم، وكذلك الشأن إذا ارتبط بأي مؤسسة ما يجاوز أصل تخصصها وما أعدت من أجله.
هذا من ناحية تفكك أجهزة إدارة الدولة ومؤسساتها، أما من ناحية هيئات المجتمع الأهلي مثل النقابات والاتحادات وغيرها، أو الهيئات الرسمية ذات الاستقلال الذاتي كالجامعات، فقد جرت في كل ذلك تعديلات في القوانين بما يفقد أيا منها درجة استقلاله الذاتي مثلما حدث بالنسبة للجامعات، وكذلك صدرت قوانين واتبعث إجراءات كان من شأنها تفكيك الهيئات ذات التماسك كالنقابات المهنية أو السيطرة الكاملة الأمنية علي الهيئات الأخري كالنقابات العمالية واتحادات الطلبة، ولا أريد أن استطرد في ذكر التفاصيل حرصاً علي الوقت والمساحة، وحرصاً علي سرعة بلوغ المسألة التي أريد إيضاحها.
والحال أن القوة الاجتماعية والسياسية ترد من العمل الجماعي لا من الجهود الفردية، وهي ترد من العمل الجمعي المشمول بتشكيل تنظيمي، ولا فعل إلا بقوة ولا رد فعل إلا بقوة، ولا تأثير إلا بقوة ولا ممانعة إلا بقوة، والحال أيضا أن الحركة الاجتماعية والسياسية لا تنفذ بآثارها إلا بهذه القوة الجماعية المنظمة، وأن أي حراك شعبي أو جمعي من أي نوع وفي أي مجال يرد بغير قوة منظمة وإنما يكون حراكا عشوائيا ما يلبث أن يتفرق شعاعاً وأن يتشتت بددًا لا يبقي له أثر يذكر، لذلك فإن التنظيم هو ما يكون عليه المعول في حساب القوي وإدراك الآثار المتفاعلة في المجتمع للجماعات والفرق المختلفة.
ومن هنا ندرك مغزي ما سبق ذكره عن التفكك الحادث، وندرك أي خسارة فادحة لحقتنا من جراء هذه السياسة التي اتبعت منذ التسعينيات بشكل منظم وآتت بنتائجها المدمرة من نهاية التسعينيات حتي اليوم، إذا ننظر إلي أنفسنا اليوم فنجد أنفسنا ساخطين دون همة، وغاضبين دون عزم، وأن السخط والغضب يأتي منهما الوعي بالسوء والقبح والفساد، أما الهمة والحزم فيأتي بهما التشكيل التنظيمي للساخطين والغاضبين، وأنا لا أقصد هنا فقط انفكاك التنظيمات الشعبية والأهلية، ولكن أقصد أيضاً انفكاك تنظيمات الدولة فيما عدا ما يقوم علي الأمن السياسي للنظام الحاكم، ومن هنا نلحظ هذا الوهن العجيب، فننظر إلي الجماعة الحاكمة فنراها لا تعرف كيف تحكم ونراها واهنة العزم خائرة القوة إلا فيما يتعلق بمنع المظاهرات، ثم ننظر إلي المعارضة فنراها تقف عند حدود التعبير الكلامي عن المواقف وعند حدود الإدراك الصحيح الصائب لما يتعين أن يقوم، ولكنها لا تستطيع أن تحول هذه الرؤية إلي قدرة تغيير فعلي.
لقد حدث في مصر علي مدي الثلاثين سنة الماضية ما حدث في العراق علي مدي السنوات الخمس الماضية، نحن دائماً في مصر نجري التغييرات بالأسلوب «السلمي المشروع البطيء» والتعديلات الهيكلية الجزئية البطيئة التي تتراكم، وهم دائماً في العراق تجري التغييرات بالأسلوب العنيف السريع، سواء كان التغيير للأحسن أو للأسوأ.
في مصر خضعت الإرادة الوطنية للدولة لإملاء الهيمنة الأمريكية عليها، خضعت بالتدريج وكمل ذلك علي مدي عشر سنوات أو أكثر، وفي العراق أجري ذلك بعملية احتلال عسكري أمريكي سريع وتعيين حكومة موالية «للأمريكيين».
في مصر تحطم النظام الاقتصادي الوطني المستقل علي مدي ربع القرن وصار إلي التبعية للهيمنة الدولية، وفي العراق جري هذا التحول في أشهر قليلة بعد الاحتلال العسكري الأمريكي، وفي مصر تعطلت المصانع ــ مصانع القطاع العام ــ بالترك العمد والإهمال المقصود علي مدي نحو خمس عشرة سنة وفي العراق جري ذلك في شهور أيضاً، وبالنسبة لجهاز إدارة الدولة في مصر فقد جري تفكيكه وجرت العملية من أوائل التسعينيات، وتمت ذات العملية بالتدمير السريع في العراق فور دخول القوات الأمريكية، أما من حيث الخسائر البشرية فهي في العراق تحدث بالرصاص والتفجيرات، وفي مصر تحدث بغرق العبارات وتصادم القطارات والحافلات وسقوط الصخر علي البشر أي بالطريق السلمي المشروع، والنتيجة أن المجتمع مفكك والدولة مفككة وأن القوة النظامية الوحيدة وهي شرطة الأمن السياسي، لم تعد حافظة لحكومة القلة فقط، ولكنها حافظة أيضاً لوضع التفكك الذي يضمن بقاء هذه القلة. وقد شكلت أجهزة الإدارة التي تناسب المجتمع الجديد المصغر، فتفتق الحزب الوطني عن لجنة السياسات، وجرت السيطرة علي بنوك القطاع العام بطاقته التمويلية عن طريق كوادر جديدة، ومع تغير الوزارة، نشأت حول كل مجموعة شباب، اختير بغير خبرة سابقة في أجهزة الدولة وبرواتب ضخمة جدا، وكل ذلك بعقود مؤقتة حلت محل الوظائف الثابتة حتي لا يكون لأحد قدرة علي الاعتراض.
هذا هو الوضع السياسي والاجتماعي والتنظيمي الذي يتناسب مع تحقيق مجتمع الــ 10% المعلن عنه، وقد يعمل العاملون علي تخفيفه بنسبة أقل من ذلك كثيرا، فنحن لا نعرف النوايا، ولكن المهم هو الإشارة إلي ما هي خصائص هذا المجتمع التي يمكن أن نستقرئها من الواقع الحالي ومن متابعة الأحداث الجارية. فنحن نلحظ مثلاً أن القاهرة لم تعد هي المدينة التي تمارس فيها فعلاً حكومة البلاد ولم تعد مقرًا لحاكم مصر الفرد القائم علي أزمة أمور البلد والمقرر لسياستها فيما كبر أو صغر من الشئون، صار مقره الدائم أو الذي يقيم فيه عادة هو مدينة شرم الشيخ علي شاطئ خليج العقبة جنوب شبه جزيرة سيناء وصارت هي المقر الذي يقابل فيه رجال الدولة ويعقد فيه اجتماعاته مع رؤساء وممثلي الدول الأجنبية وهو مكان عقد فيه ما يسمي بلقاءات القمة وبلغ من اطراد هذا الأمر والاعتياد عليه أن المؤتمر الدولي للاتحاد الأفريقي الذي ينعقد بحضور رؤساء الدول الأفريقية كان انعقاده الأخير السنة الماضية في شرم الشيخ رغم أن شرم الشيخ في آسيا وليست في أفريقيا بما يعني أن مؤتمر قمة الاتحاد الأفريقي لم تجد له حكومة مصر في أرضها الأفريقية الفسيحة مكانا لانعقاده فانعقد في آسيا.
وأن شرم الشيخ التي تمارس فيها وظائف العاصمة هي في الجزء الشرقي من سيناء وهو الجزء منزوع السلاح المصري بنص الاتفاقية المصرية - الإسرائيلية وهي ليست تحت سيطرة القوات المسلحة المصرية فمحظور علي مصر بموجب هذه الاتفاقية أن تتواجد فيها قوة من قوات مصر المسلحة، وهذا يعني أن أقرب القوات المسلحة لشرم الشيخ بحكم التواجد وبحكم إمكان التواجد الدولي المتاح هي القوات المسلحة الإسرائيلية براً وجواً وبحراً وهذا يذكرنا تاريخياً بوضع السلطان «محمد وحيد الدين» سلطان الدولة العثمانية الأخير بعد الحرب العالمية الأولي إذ كانت إقامته في اسطنبول وكانت تحيط به القوات الأجنبية المنتصرة علي تركيا في تلك الحرب وهذا ما من أجله نقل «كمال أتاتورك» العاصمة إلي أنقرة في قلب بلده وفي وسط الأناضول.
إن كان هذا هو شأن المدينة التي تمارس فيها الدولة مهام العاصمة في هذا الوضع الجديد وهي بعيدة عن وادي النيل الذي يسكنه ما جري التعبير عنه بأنه 90% من السكان فما هو شأن التمويل إننا نعلم أن ميزانية الدولة تمول بمصادر إيراد يرد من شئون المصريين كلهم، مما ينتج عن الزراعة في وادي النيل وعن المصانع التي تنتشر علي طول مدن الوادي وأرضه ومن عمل العاملين المصريين عمالاً وموظفين ومهنيين وحرفيين ومن ضرائب استهلاك هؤلاء جميعاً فكيف يمكن الاستغناء «بقدر الإمكان» عن هؤلاء بوصفهم مصادر إنتاج واستهلاك وعمل وغيره، إن تمويل هذه الإدارة الجديدة للدولة في وضعها المصغر يمكن أن يأتي من دخل البترول والغاز وهو مبلغ يدور حول 9 مليارات ودخل قناة السويس وهو يدور 4 مليارات وعوائد المصريين المقيمين بالخارج وهو يدور حول 6 مليارات ثم السياحة وهي تدور حول 8 مليارات وكل هذه الدخول لا تحتاج إلي وادي النيل في مصر وهو موطن أكثر من 90% من السكان ولا تنتج في الأساس عن أنشطة إنتاجية خاصة بسكان هذا الوادي وهم يزيدون علي 90% من السكان وحتي النشاط السياحي صار جزءاً غالباً فيه يرد من سياحة شواطئ البحر الأحمر وليس من أرض الوادي ولا من آثار هذا الوادي.
ونحن هنا أمام مداخيل اقتصادية تتشابه إلي حد ما مع مداخيل إمارات الخليج العربي وأن الاعتماد الأساسي عليها في تشكيل دولة الــ 10% يحيل الدولة إلي إمارة شبه خليجية والفارق أن إمارة شرم الشيخ تقع علي الشاطئ الغربي للجزيرة العربية بينما تقع قريناتها علي الشاطئ الشرقي لشبه الجزيرة وإماراتنا قد تحتاج إلي بعض عمالة تأتيها من وادي النيل، خاصة في شأن الخدمات وفي شأن حفظ الأمن وهذا من الصفات الشبيهة بصفات تجدها في إمارات الخليج التي تعتمد علي عمالة تأتيها من خارجها ولأنها إمارة تعتمد علي الدخل الريعي وليس الدخل الإنتاجي فهي لا تحتاج إلي فلاحين ولا إلي عمال، يكفيها خبراء في الإدارة وموظفين صغار وخدمة كما يكفيها من القوات الحامية لها قوة الشرطة علي أن تكون هذه القوة شديدة البأس صعبة المراس ذات بطش وقسوة.
وأن نظرية الأمن القومي لهذه الإمارة لابد أن تكون مختلفة تماماً عن مثيلاتها الخاصة بمصر التي نعرفها أو بعبارة أخري عن باقي مصر الذي نعرفه وهذا الباقي من مصر الذي يشكل 90% أو أكثر هو أرض وادي النيل والذي لم يعد وطناً مشمولاً بالرعاية وما عليه من بشر هم سكان وليسوا شعباً بالمعني الذي يعرفه القانون الدولي العام، إن ثمة إمارة انسلخت من الدولة الأم وأخذت اسمها ووصفها القانوني ومركزها الدولي وأن أي دولة منسلخة تختلف نظرتها إلي أمنها القومي عن النظرية السائدة لدي الدولة الأم بل هي تكون ضد هذه النظرية لذلك فإن الجزء المنسلخ يعتبر الدولة الأم عدوه الأول والأكبر ومصدر الخطر الدائم عليه ومتي تعين العدو الأول، فقد تعين أيضاً الحليف الأول وهو عدو العدو، والإمارة المنسلخة في هذا التصور لا تجد حليفاً لها إلا من كان يخشاه الوطن الأم ويعتبره خصماً له وخطرا عليه، من هنا نفهم الموقف الأخير الذي كشفت عنه أحداث غزة الأخيرة في ديسمبر 2008، كما نفهم هذه السياسة التي قامت وهي سياسة تمارس وتطبق ضمنا وعلانية وسراً وجهراً وهي أن ثمة تحالفاً استراتيجياً يقوم بين الحكومة الحاضرة والولايات المتحدة الأمريكية وليس من الممكن فهم هذه السياسة إذا نظرنا إلي الأمر بوصفه علاقة بين مصر والولايات المتحدة، لأن الولايات المتحدة ومعها إسرائيل شنت علي هذه المنطقة من الحروب ولا تزال تفعل ما يجعلنا نراها عدوانا مستمراً من الجانب الأمريكي الصهيوني علينا.
إنما يُفهم الأمر إذا نظرنا إليه باعتباره وصفاً للعلاقة بين الولايات المتحدة وإسرائيل من جهة وبين الإمارة المنسلخة من مصر، إمارة الــ 10% أو أقل من السكان، من جهة أخري.
أمامنا مهمة كبيرة، أن نعيد مصر إلي الوجود بإذن الله تعالي فنجمع ما تفرق ونركب ما تفكك وأن نرمم أبنيتها الإدارية المتصدعة وأن نجبر ما تكسر من عظامها هذا بالنسبة لأجهزة إدارة الدولة، أما بالنسبة للتنظيمات الشعبية والأهلية فأمامنا مهمة الإعداد الجديد لتنظيمات جديدة علي كل مستويات العمل الشعبي والأهلي النقابي وغير النقابي والجمعيات والاتحادات وغيرها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق