معظم المحللين والخبراء السياسيين والعسكريين والإستراتيجيين :جهل أم حقد
مشهد من قناة الجزيرة: الرأي في مقابل الحقيقة!
حمزة عمر (نقلا عن مركز اللإعلام الفلسطيني )
هالني تأسيس بعض المثقفين العرب لآرائهم ومواقفهم على معطيات ومعلومات خاطئة تكشف عن الضعف الشديد في المتابعة، والجهل المطبق فيما يتعلق بعدوان الصهاينة على شعبنا الفلسطيني، وكم كنت مذهولاً وأحد أساتذة العلوم السياسية في ندوة خاصة بثتها قناة الجزيرة عن الحرب على غزة بعد وقف العدوان العسكري وهو يقارن بين نجاح حزب الله في تجنيب المدنيين اللبنانيين العدوان وفشل المقاومة الفلسطينية في مقابل ذلك، مطالباً حماس ببناء ملاجئ لمليون ونصف إنسان في الشريط الساحلي الضيق المسمى بقطاع غزة!
وعلينا وقبل الاستطراد في علاج قضية الضحايا المدنيين في الرد على مثقفنا العزيز ومن لف لفه في إعلامنا العربي، أن نفرق بين نوعين من المثقفين الذي يقدمون آراء مؤسسة على مغالطات أو معلومات زائفة أو مشوهة أو تفتقر للدقة الكافية، ففريق من هؤلاء: يقدم خطاباً مقصوداً في عداء المقاومة وفكرتها ونهجها وعلى رأسها حركة حماس إما لمواقف فكرية من مرجعية حماس الأيديولوجية وسلوكها السياسي المبني على فكرة المقاومة، أو لارتباط مصالح هؤلاء المثقفين والإعلاميين بأجندات حكومية عربية أو مخابراتية صهيونية وأمريكية، وإذا كان بعض هؤلاء صريحاً في عدائه لحماس ومن خلفها بقية أطر المقاومة الفلسطينية نسبياً، فإن بعضهم يتقن التلون والتلاعب في المفردات والتغيير في نبرة الخطاب الإعلامي بحسب القناة التي تستضيفه، فبعض الضيوف تهبط نبرة الحدة لديهم إلى حد كبير ما بين ظهورهم مثلاً على الفضائيات المصرية حيث العداء الصريح والتحريض الكبير والانتقاص اللاذع، وخروجهم على قناة الجزيرة حيث الموقف أقل حدة ومزيناً بأن الاختلاف مع حماس لا يعني انتفاء التقدير لها ولمقاومتها!
أما الفريق الثاني من المثقفين العرب الذين يقدمون آراء مؤسسة على المعلومات الخاطئة، فليس لدي شك في صلاح نواياهم، لكن مشكلتهم في جهلهم الحقيقي بأبسط المعلومات التي يمكن أن تتوفر لهم بجهد ضئيل من المتابعة، وهو ما يثير التساؤل عن ضعف عدد من المثقفين العرب من جهة، ومن جهة أخرى عن أزمة الإعلام العربي حينما يجعل من هؤلاء المثقفين جسراً عبر شاشته إلى المواطن العربي بالمعلومة المغلوطة والفكرة المشوهة عن قصد أو بدون قصد، فإذا ساهم جزء كبير من الإعلام العربي في الجهد الحربي الصهيوني على قطاع غزة وحركة حماس، فإن جزءاً آخر حاول أن يكون أكثر مصداقية وأن يقترب من الموقف الوطني والأخلاقي من المقاومة وجماهيرها في كل مكان في العالم، لكن أكذوبة المهنية تتحول إلى فخ يسقط فيه هذا النوع من الإعلام العربي، ولم تكن يوماً النوايا الصادقة لتسوغ الجهل وتشويه الوعي الجمعي للأمة.
ولعله يلزم أن نوضح أننا بقدر ما نعيب على بعض الإعلام العربي تغييب صوت المقاومة منه، فإننا لا ندعو إلى تغييب الآراء المختلفة مع المقاومة ومع حركة حماس على وجه التحديد عن الفريق الآخر من الإعلام العربي، فنحن لا نملك ذلك بكل تأكيد، لكننا نعيب في المقابل ألا يجد الرأي المؤسس على المغالطات والمعلومات المزيفة من يرده من الإعلاميين المحاورين، لا بهدف نصرة الرأي المقابل، وإنما فقط حفظاً للحقيقة، وانتصاراً للمعلومة الدقيقة، وهنا فإننا نتحدث عنه معلومات لا عن آراء ووجهات نظر.
بين نجاح موهوم وفشل مزعوم في تجنيب المدنيين العدوان
يصر بعض المثقفين العرب من أصحاب النبرة الهادئة في الاختلاف مع حماس على قناة الجزيرة على البخس من الإنجاز العسكري لمقاومة الحركة وبقية أطر المقاومة في غزة، ويستدل بعضهم على ذلك بقدرة حزب الله على تجنيب مدنييه العدوان الصهيوني! ففي الندوة المذكورة والتي بثتها قناة الجزيرة مساء يوم الجمعة الماضي وأدارها الإعلامي محمد كريشان طرح الدكتور عبد الخالق عبد الله أستاذ العلوم السياسية في جامعة الإمارات رأياً صريحاً عن فشل حماس في إدارة المعركة في غزة في تجنيب المدنيين العدوان، ودعاهم للتأسي بحزب الله الذي بنى الملاجئ مما حمى المدنيين من عدوان الصهاينة، ولعل الدكتور منير شفيق لم يسعفه الوقت في نفس الندوة لطرح كل ما يمكن قوله في الرد على هذا الرأي الذي لا يمتلك واحداً في المئة من المعلومات الصحيحة، وقد اكتفى الدكتور شفيق بالاستدلال بالمقاومات الأخرى التي دفع مدنيوها آلاف وملايين الضحايا كما في الجزائر وفيتنام، وهي حقائق تاريخية لم يحسن الدكتور عبد الخالق مع الأسف الاستماع لها، بل لم يكن لدية فكرة كافية عنها حيث رد أن الأمريكان قد دمروا مدناً كمبان ومنشآت فقط، وتجاوز عن تذكير الدكتور شفيق بأنهم قتلوا ثلاثة ملايين فيتنامي! وتجاوز كذلك عن توضيح الدكتور شفيق بأن حزب الله لم يبن ملاجئ أصلاً للمدنيين اللبنانيين!
في الحقيقة من الممكن أن نوقف هذا النقاش بجملة بسيطة تذكر بعدد الضحايا المدنيين في عدوان الصهاينة على لبنان في حرب تموز في العام 2006م، حيث بلغ عدد الشهداء اللبنانيين 1187 شهيداً، وعدد الجرحى 4092 جريحاً، وهي إحصائية قريبة جداً من إحصائية الضحايا المدنيين في صفوف الشعب الفلسطيني في عدوان الاحتلال الأخير على غزة! مما لا يعني إلا شيئاً واحداً في موضوعنا هذا أن كل الرأي الذي بناه الدكتور عبد الخالق وغيره من المثقفين العرب مؤسس على وهم، ويفتقد للمعلومة الأساسية والتي لا بد منها حتماً في هذا السياق وفي هكذا نقاش، وهي عدد الضحايا المدنيين في كل من اللبنانيين والفلسطينيين لتخلو المقارنة من الفساد والخطأ المنهجي، ولو سلمنا جدلاً أن الدكتور يملك هكذا معلومة –مع أن ما ظهر خلاف ذلك- فإن حديثه عن نجاح حزب الله في تجنيب المدنيين العدوان مقابل فشل حماس لا يمكن فهمه أبداً، إذ لا يمكن أن تفضي المقدمات الواحدة إلى نتائج متضادة!
وعلى الرغم من أن عدد ضحايا العدوان متقارب إلى حد كبير بين حربي تموز 2006 وحرب غزة، فإن ثمة فوارق مهمة جداً كانت لصالح حرب تموز، ومع ذلك كان ضحايا العدوان على لبنان بهذه الضخامة الملفتة، ومن تلك الفوارق:
- أن الهجوم الصهيوني على لبنان استهدف بشكل أساسي معاقل حزب الله والحواضن الشعبية الموالية وخاصة جنوب لبنان الذي شكل ميدان المواجهة، والضاحية الجنوبية من بيروت، واستثنى بقية لبنان لعزل حزب الله طائفياً وحرمانه من أي دعم من تلك الطوائف ولأن بقية الطوائف لم تقاوم الاحتلال لسبب أو لآخر، بينما استهدف العدو الصهيوني كل القطاع لأن حماس على وجه التحديد تنظيماً ومقاومة وبقية فصائل المقاومة موجودة في كل مدن وقرى ومخيمات القطاع على خلاف حزب الله وهو ما يكثّر من أهداف الاحتلال كثرة طاغية وما يسفر عن ضحايا مدنيين أكثر.
- اقتصار الهجوم الصهيوني على أماكن محددة في لبنان فسح المجال للمدنيين للنزوح إلى الشمال والمناطق الأخرى التي استثناها الاحتلال من عدوانه، على خلاف الحالية الغزّية حيث لم يستثن الاحتلال مدينة أو قرية أو مخيماً من قصفه الوحشي، فالمدني الفلسطيني ينزح عن النار إلى النار، ومن تحث القصف إلى القصف، لا فرق في ذلك بين شمال القطاع أو جنوبه أو شرقه أو غربه.
- كانت الحدود السورية مفتوحة ومتعاطفة ومتعاونة مع المقاومة في كل الميادين سواء بالإمداد العسكري، أو بالاستقبال السلس والميسر للاجئين، وهو ما لم يتوفر للشعب الفلسطيني في غزة، فالبحر من أمامه والعدو من خلفه، ولم يبق له إلا الحدود المصرية محكمة الإغلاق وسافرة العداء!
- امتلكت المقاومة اللبنانية تضاريس جبلية تدار عليها المعركة بعيداً عن المدنيين، وهي هبة ربانية على أية حال، لا تتوفر في شريط ساحلي ضيق مكشوف بأعلى كثافة سكانية في العالم تتعرض كل مناطقه للقصف والتدمير بلا استثناء!
- استهدف الاحتلال كافة المقرات الشرطية والأمنية في القطاع وهو ما جعل عدد ضحايا الضربة الأولى مرتفعاً، بينما لم يستهدف الاحتلال القوى الأمنية والشرطية في لبنان ولا حتى الجيش اللبناني، لأن حزب الله لا يتحمل أية مسؤولية أمنية أو إدارية عن لبنان، على خلاف حماس المسؤولة عن إدارة القطاع معيشياً وأمنياً إضافة لمقاومتها العدوان الصهيوني.
وعلى الرغم من كل هذه الفوارق الموضوعية التي كان يمكن أن تخدم المدنيين اللبنانيين، فإن عدد الضحايا في صفوفهم كان مرتفعاً إلى درجة تقترب كثيراً من عدد ضحايا العدوان على قطاع غزة، وهو ما يعني بحسبة نسبية أن الضحايا الفلسطينيين كانوا أقل لا من حيث العدد ولكن من حيث قياس ظروف سكان القطاع إلى ظروف اللبنانيين!
ومن القضايا التي طرحها الدكتور ويطرحها غيره من المثقفين العرب في نفس السياق مطالبة حماس بناء ملاجئ للمدنيين في القطاع مستدلين خطأ بفعل حزب الله ذلك، فحزب الله لم يبن ملاجئ للمدنيين أصلاً، وبالكاد كان لديه من الملاجئ والأنفاق ما يكفي لحماية كادراته وأغراضه الحزبية، فثمة خطأ معلوماتي أيضاً في هذا الاتجاه، إلا أن المهم إضافة للخطأ المعلوماتي غياب حصار القطاع عن بال هذا الطرح، فمنذ سيطرة حماس على القطاع والمواد الأساسية ممنوعة عنه ومن ذلك الإسمنت والحديد، فهل يمكن أن تبنى ملاجئ بلا إسمنت أو حديد؟! هذا إضافة للحصار المالي وصعوبة تحويل أو إدخال الأموال إلى القطاع بكميات كافية لبناء هكذا ملاجئ، ومن ناحية أخرى فإن بناء ملاجئ كافية لمليون ونصف إنسان تحتاج دعماً مالياً ضخماً لا يتوفر لحركة مواردها المالية محدودة ويدعمها عدد قليل من الدول، فسلطة عباس التي يمولها العالم بأسره بالكاد تستطيع دفع رواتب الموظفين! فكيف بحركة محاصرة كحماس! وهل تكفي المدة الزمنية منذ حسم القطاع إلى يوم العدوان لبناء ملاجئ في كل مناطق القطاع؟ هذا إضافة لما يمكن قوله من ناحية عملياتية عن إمكانية بناء ملاجئ ضخمة تتسع لمليون ونصف إنسان في شريط ساحلي ضيق وهذه مسألة أدرى بها الحكومات والمهندسون المختصون مني؛ إلا أن كل ذلك من معلومات حقيقية ومتوفرة لأي أحد تغيب عن بال بعض المثقفين العرب.
يغيب عن بال هذا الفريق من المثقفين العرب أنه لا توجد مقاومة شعبية مجتمعية في العالم ملكت الطائرات والدبابات والغواصات والزوارق البحرية لتحمي مدنييها بتكافؤ أدوات الرعب وأسلحة القتال بين الطرفين المتخاصمين، مع أن وجود هذا التكافؤ لم يحم مدناً عالمية ضخمة من الإبادة كما حصل في الحروب العالمية المختلفة، أما المقاومات الشعبية فيتجاوز هؤلاء المثقفون عن ضحايا مدنييها الذين هم بالملايين بمنتهى البرود وكأن شيئاً لم يكن في التاريخ! وكأن الشعب الفلسطيني ومقاومته بدعاً من بين البشر!
وقبل الختام لا بد من التأكيد على تقديرنا لقناة الجزيرة واحترامنا لدورها الإيجابي الكبير في الحرب الأخيرة، أما ما جاء في هذه الندوة مما يحتاج إلى تصحيح أو نقاش فهو كثير، لكن الندوة ليست غرضنا، لا هي ولا القناة ولا المقدم ولا الدكتور صاحب الفكرة والتي يشاركه فيها غيره من المثقفين، إنما كان الموضوع الذي ناقشناه وقد طرح في هذه الندوة مثالاً على حالة القحط المعرفي لدى قطاع واسع من المثقفين والأكاديميين العرب، وهو ما يعكس ضعفاً معرفياً علمياً من جهة، وضعفاً تعارفياً بين المثقفين من جهة والتيارات الفكرية والسياسية التي يخالفونها من جهة أخرى مما يجعل أحكامهم خاضعة للتصورات المسبقة.
وطالما أن المادة الفكرية التي يقدمها الإعلام العربي هي النتاج المرئي أو المقروء أو المسموع لهؤلاء المثقفين فإن هذا يطرح سؤالاً كبيراً عن مصداقية هذا الإعلام وأهليته في الارتفاع بالجمهور العربي إلى سوية فكرية تنهض بتحديات المرحلة وإلى الحقيقة الكاملة عن صورة الموقف؛ خاصة ونحن لا نتحدث عن الرأي في مقابل الرأي، وإنما نتحدث عن الرأي في مقابل الحقيقة والمعرفة!
مشهد من قناة الجزيرة: الرأي في مقابل الحقيقة!
حمزة عمر (نقلا عن مركز اللإعلام الفلسطيني )
هالني تأسيس بعض المثقفين العرب لآرائهم ومواقفهم على معطيات ومعلومات خاطئة تكشف عن الضعف الشديد في المتابعة، والجهل المطبق فيما يتعلق بعدوان الصهاينة على شعبنا الفلسطيني، وكم كنت مذهولاً وأحد أساتذة العلوم السياسية في ندوة خاصة بثتها قناة الجزيرة عن الحرب على غزة بعد وقف العدوان العسكري وهو يقارن بين نجاح حزب الله في تجنيب المدنيين اللبنانيين العدوان وفشل المقاومة الفلسطينية في مقابل ذلك، مطالباً حماس ببناء ملاجئ لمليون ونصف إنسان في الشريط الساحلي الضيق المسمى بقطاع غزة!
وعلينا وقبل الاستطراد في علاج قضية الضحايا المدنيين في الرد على مثقفنا العزيز ومن لف لفه في إعلامنا العربي، أن نفرق بين نوعين من المثقفين الذي يقدمون آراء مؤسسة على مغالطات أو معلومات زائفة أو مشوهة أو تفتقر للدقة الكافية، ففريق من هؤلاء: يقدم خطاباً مقصوداً في عداء المقاومة وفكرتها ونهجها وعلى رأسها حركة حماس إما لمواقف فكرية من مرجعية حماس الأيديولوجية وسلوكها السياسي المبني على فكرة المقاومة، أو لارتباط مصالح هؤلاء المثقفين والإعلاميين بأجندات حكومية عربية أو مخابراتية صهيونية وأمريكية، وإذا كان بعض هؤلاء صريحاً في عدائه لحماس ومن خلفها بقية أطر المقاومة الفلسطينية نسبياً، فإن بعضهم يتقن التلون والتلاعب في المفردات والتغيير في نبرة الخطاب الإعلامي بحسب القناة التي تستضيفه، فبعض الضيوف تهبط نبرة الحدة لديهم إلى حد كبير ما بين ظهورهم مثلاً على الفضائيات المصرية حيث العداء الصريح والتحريض الكبير والانتقاص اللاذع، وخروجهم على قناة الجزيرة حيث الموقف أقل حدة ومزيناً بأن الاختلاف مع حماس لا يعني انتفاء التقدير لها ولمقاومتها!
أما الفريق الثاني من المثقفين العرب الذين يقدمون آراء مؤسسة على المعلومات الخاطئة، فليس لدي شك في صلاح نواياهم، لكن مشكلتهم في جهلهم الحقيقي بأبسط المعلومات التي يمكن أن تتوفر لهم بجهد ضئيل من المتابعة، وهو ما يثير التساؤل عن ضعف عدد من المثقفين العرب من جهة، ومن جهة أخرى عن أزمة الإعلام العربي حينما يجعل من هؤلاء المثقفين جسراً عبر شاشته إلى المواطن العربي بالمعلومة المغلوطة والفكرة المشوهة عن قصد أو بدون قصد، فإذا ساهم جزء كبير من الإعلام العربي في الجهد الحربي الصهيوني على قطاع غزة وحركة حماس، فإن جزءاً آخر حاول أن يكون أكثر مصداقية وأن يقترب من الموقف الوطني والأخلاقي من المقاومة وجماهيرها في كل مكان في العالم، لكن أكذوبة المهنية تتحول إلى فخ يسقط فيه هذا النوع من الإعلام العربي، ولم تكن يوماً النوايا الصادقة لتسوغ الجهل وتشويه الوعي الجمعي للأمة.
ولعله يلزم أن نوضح أننا بقدر ما نعيب على بعض الإعلام العربي تغييب صوت المقاومة منه، فإننا لا ندعو إلى تغييب الآراء المختلفة مع المقاومة ومع حركة حماس على وجه التحديد عن الفريق الآخر من الإعلام العربي، فنحن لا نملك ذلك بكل تأكيد، لكننا نعيب في المقابل ألا يجد الرأي المؤسس على المغالطات والمعلومات المزيفة من يرده من الإعلاميين المحاورين، لا بهدف نصرة الرأي المقابل، وإنما فقط حفظاً للحقيقة، وانتصاراً للمعلومة الدقيقة، وهنا فإننا نتحدث عنه معلومات لا عن آراء ووجهات نظر.
بين نجاح موهوم وفشل مزعوم في تجنيب المدنيين العدوان
يصر بعض المثقفين العرب من أصحاب النبرة الهادئة في الاختلاف مع حماس على قناة الجزيرة على البخس من الإنجاز العسكري لمقاومة الحركة وبقية أطر المقاومة في غزة، ويستدل بعضهم على ذلك بقدرة حزب الله على تجنيب مدنييه العدوان الصهيوني! ففي الندوة المذكورة والتي بثتها قناة الجزيرة مساء يوم الجمعة الماضي وأدارها الإعلامي محمد كريشان طرح الدكتور عبد الخالق عبد الله أستاذ العلوم السياسية في جامعة الإمارات رأياً صريحاً عن فشل حماس في إدارة المعركة في غزة في تجنيب المدنيين العدوان، ودعاهم للتأسي بحزب الله الذي بنى الملاجئ مما حمى المدنيين من عدوان الصهاينة، ولعل الدكتور منير شفيق لم يسعفه الوقت في نفس الندوة لطرح كل ما يمكن قوله في الرد على هذا الرأي الذي لا يمتلك واحداً في المئة من المعلومات الصحيحة، وقد اكتفى الدكتور شفيق بالاستدلال بالمقاومات الأخرى التي دفع مدنيوها آلاف وملايين الضحايا كما في الجزائر وفيتنام، وهي حقائق تاريخية لم يحسن الدكتور عبد الخالق مع الأسف الاستماع لها، بل لم يكن لدية فكرة كافية عنها حيث رد أن الأمريكان قد دمروا مدناً كمبان ومنشآت فقط، وتجاوز عن تذكير الدكتور شفيق بأنهم قتلوا ثلاثة ملايين فيتنامي! وتجاوز كذلك عن توضيح الدكتور شفيق بأن حزب الله لم يبن ملاجئ أصلاً للمدنيين اللبنانيين!
في الحقيقة من الممكن أن نوقف هذا النقاش بجملة بسيطة تذكر بعدد الضحايا المدنيين في عدوان الصهاينة على لبنان في حرب تموز في العام 2006م، حيث بلغ عدد الشهداء اللبنانيين 1187 شهيداً، وعدد الجرحى 4092 جريحاً، وهي إحصائية قريبة جداً من إحصائية الضحايا المدنيين في صفوف الشعب الفلسطيني في عدوان الاحتلال الأخير على غزة! مما لا يعني إلا شيئاً واحداً في موضوعنا هذا أن كل الرأي الذي بناه الدكتور عبد الخالق وغيره من المثقفين العرب مؤسس على وهم، ويفتقد للمعلومة الأساسية والتي لا بد منها حتماً في هذا السياق وفي هكذا نقاش، وهي عدد الضحايا المدنيين في كل من اللبنانيين والفلسطينيين لتخلو المقارنة من الفساد والخطأ المنهجي، ولو سلمنا جدلاً أن الدكتور يملك هكذا معلومة –مع أن ما ظهر خلاف ذلك- فإن حديثه عن نجاح حزب الله في تجنيب المدنيين العدوان مقابل فشل حماس لا يمكن فهمه أبداً، إذ لا يمكن أن تفضي المقدمات الواحدة إلى نتائج متضادة!
وعلى الرغم من أن عدد ضحايا العدوان متقارب إلى حد كبير بين حربي تموز 2006 وحرب غزة، فإن ثمة فوارق مهمة جداً كانت لصالح حرب تموز، ومع ذلك كان ضحايا العدوان على لبنان بهذه الضخامة الملفتة، ومن تلك الفوارق:
- أن الهجوم الصهيوني على لبنان استهدف بشكل أساسي معاقل حزب الله والحواضن الشعبية الموالية وخاصة جنوب لبنان الذي شكل ميدان المواجهة، والضاحية الجنوبية من بيروت، واستثنى بقية لبنان لعزل حزب الله طائفياً وحرمانه من أي دعم من تلك الطوائف ولأن بقية الطوائف لم تقاوم الاحتلال لسبب أو لآخر، بينما استهدف العدو الصهيوني كل القطاع لأن حماس على وجه التحديد تنظيماً ومقاومة وبقية فصائل المقاومة موجودة في كل مدن وقرى ومخيمات القطاع على خلاف حزب الله وهو ما يكثّر من أهداف الاحتلال كثرة طاغية وما يسفر عن ضحايا مدنيين أكثر.
- اقتصار الهجوم الصهيوني على أماكن محددة في لبنان فسح المجال للمدنيين للنزوح إلى الشمال والمناطق الأخرى التي استثناها الاحتلال من عدوانه، على خلاف الحالية الغزّية حيث لم يستثن الاحتلال مدينة أو قرية أو مخيماً من قصفه الوحشي، فالمدني الفلسطيني ينزح عن النار إلى النار، ومن تحث القصف إلى القصف، لا فرق في ذلك بين شمال القطاع أو جنوبه أو شرقه أو غربه.
- كانت الحدود السورية مفتوحة ومتعاطفة ومتعاونة مع المقاومة في كل الميادين سواء بالإمداد العسكري، أو بالاستقبال السلس والميسر للاجئين، وهو ما لم يتوفر للشعب الفلسطيني في غزة، فالبحر من أمامه والعدو من خلفه، ولم يبق له إلا الحدود المصرية محكمة الإغلاق وسافرة العداء!
- امتلكت المقاومة اللبنانية تضاريس جبلية تدار عليها المعركة بعيداً عن المدنيين، وهي هبة ربانية على أية حال، لا تتوفر في شريط ساحلي ضيق مكشوف بأعلى كثافة سكانية في العالم تتعرض كل مناطقه للقصف والتدمير بلا استثناء!
- استهدف الاحتلال كافة المقرات الشرطية والأمنية في القطاع وهو ما جعل عدد ضحايا الضربة الأولى مرتفعاً، بينما لم يستهدف الاحتلال القوى الأمنية والشرطية في لبنان ولا حتى الجيش اللبناني، لأن حزب الله لا يتحمل أية مسؤولية أمنية أو إدارية عن لبنان، على خلاف حماس المسؤولة عن إدارة القطاع معيشياً وأمنياً إضافة لمقاومتها العدوان الصهيوني.
وعلى الرغم من كل هذه الفوارق الموضوعية التي كان يمكن أن تخدم المدنيين اللبنانيين، فإن عدد الضحايا في صفوفهم كان مرتفعاً إلى درجة تقترب كثيراً من عدد ضحايا العدوان على قطاع غزة، وهو ما يعني بحسبة نسبية أن الضحايا الفلسطينيين كانوا أقل لا من حيث العدد ولكن من حيث قياس ظروف سكان القطاع إلى ظروف اللبنانيين!
ومن القضايا التي طرحها الدكتور ويطرحها غيره من المثقفين العرب في نفس السياق مطالبة حماس بناء ملاجئ للمدنيين في القطاع مستدلين خطأ بفعل حزب الله ذلك، فحزب الله لم يبن ملاجئ للمدنيين أصلاً، وبالكاد كان لديه من الملاجئ والأنفاق ما يكفي لحماية كادراته وأغراضه الحزبية، فثمة خطأ معلوماتي أيضاً في هذا الاتجاه، إلا أن المهم إضافة للخطأ المعلوماتي غياب حصار القطاع عن بال هذا الطرح، فمنذ سيطرة حماس على القطاع والمواد الأساسية ممنوعة عنه ومن ذلك الإسمنت والحديد، فهل يمكن أن تبنى ملاجئ بلا إسمنت أو حديد؟! هذا إضافة للحصار المالي وصعوبة تحويل أو إدخال الأموال إلى القطاع بكميات كافية لبناء هكذا ملاجئ، ومن ناحية أخرى فإن بناء ملاجئ كافية لمليون ونصف إنسان تحتاج دعماً مالياً ضخماً لا يتوفر لحركة مواردها المالية محدودة ويدعمها عدد قليل من الدول، فسلطة عباس التي يمولها العالم بأسره بالكاد تستطيع دفع رواتب الموظفين! فكيف بحركة محاصرة كحماس! وهل تكفي المدة الزمنية منذ حسم القطاع إلى يوم العدوان لبناء ملاجئ في كل مناطق القطاع؟ هذا إضافة لما يمكن قوله من ناحية عملياتية عن إمكانية بناء ملاجئ ضخمة تتسع لمليون ونصف إنسان في شريط ساحلي ضيق وهذه مسألة أدرى بها الحكومات والمهندسون المختصون مني؛ إلا أن كل ذلك من معلومات حقيقية ومتوفرة لأي أحد تغيب عن بال بعض المثقفين العرب.
يغيب عن بال هذا الفريق من المثقفين العرب أنه لا توجد مقاومة شعبية مجتمعية في العالم ملكت الطائرات والدبابات والغواصات والزوارق البحرية لتحمي مدنييها بتكافؤ أدوات الرعب وأسلحة القتال بين الطرفين المتخاصمين، مع أن وجود هذا التكافؤ لم يحم مدناً عالمية ضخمة من الإبادة كما حصل في الحروب العالمية المختلفة، أما المقاومات الشعبية فيتجاوز هؤلاء المثقفون عن ضحايا مدنييها الذين هم بالملايين بمنتهى البرود وكأن شيئاً لم يكن في التاريخ! وكأن الشعب الفلسطيني ومقاومته بدعاً من بين البشر!
وقبل الختام لا بد من التأكيد على تقديرنا لقناة الجزيرة واحترامنا لدورها الإيجابي الكبير في الحرب الأخيرة، أما ما جاء في هذه الندوة مما يحتاج إلى تصحيح أو نقاش فهو كثير، لكن الندوة ليست غرضنا، لا هي ولا القناة ولا المقدم ولا الدكتور صاحب الفكرة والتي يشاركه فيها غيره من المثقفين، إنما كان الموضوع الذي ناقشناه وقد طرح في هذه الندوة مثالاً على حالة القحط المعرفي لدى قطاع واسع من المثقفين والأكاديميين العرب، وهو ما يعكس ضعفاً معرفياً علمياً من جهة، وضعفاً تعارفياً بين المثقفين من جهة والتيارات الفكرية والسياسية التي يخالفونها من جهة أخرى مما يجعل أحكامهم خاضعة للتصورات المسبقة.
وطالما أن المادة الفكرية التي يقدمها الإعلام العربي هي النتاج المرئي أو المقروء أو المسموع لهؤلاء المثقفين فإن هذا يطرح سؤالاً كبيراً عن مصداقية هذا الإعلام وأهليته في الارتفاع بالجمهور العربي إلى سوية فكرية تنهض بتحديات المرحلة وإلى الحقيقة الكاملة عن صورة الموقف؛ خاصة ونحن لا نتحدث عن الرأي في مقابل الرأي، وإنما نتحدث عن الرأي في مقابل الحقيقة والمعرفة!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق