13 أبريل 2009

الإرهاب الأمريكي : وكالة الاستخبارات و مجموعة من الإجراءات البديلة




حكايات من عالم التعذيب المظلم

الاثنين 13 ابريل 2009
- مارك دانر
فى يوم مشمس صافٍ قبل عامين، دخل الرئيس جورج دابليو بوش القاعة الشرقية بالبيت الأبيض وأبلغ العالم أن الولايات المتحدة صنعت عالما مظلما وسريا لاحتجاز الإرهابيين المقبوض عليهم والتحقيق معهم.

وتابع الرئيس: «بالإضافة إلى الإرهابيين المحتجزين فى جوانتانامو، هناك عدد صغير من قادة الإرهاب وعملائهم المشتبه بهم الذين ألقى القبض عليهم أثناء الحرب، جرى احتجازهم واستجوابهم خارج الولايات المتحدة، ضمن برنامج منفصل تديره وكالة الاستخبارات المركزية».

وقال بوش إنه فى تلك الأماكن «استخدمت وكالة الاستخبارات مجموعة من الإجراءات البديلة.» وأضاف أن «هذه الإجراءات قصد بها أن تكون آمنة، وتتماشى مع قوانيننا ودستورنا والالتزامات التى تفرضها علينا المعاهدات. وقد راجعت وزارة العدل هذه الأساليب بتعمق وقررت أنها قانونية».

وأعتقد أن هذه الخطبة سوف تعد أهم خطب جورج بوش؛ وربما الخطبة التاريخية الوحيدة التى ألقاها. وفى دفاعه الحماسى عن «مجموعة الإجراءات البديلة» الخاصة بحكومته وإصراره المتحمس بالقدر نفسه على أنها «قانونية»، عرض على البلاد ملحمة التعذيب الأمريكية الأخلاقية المظلمة، التى لانزال نجد أنفسنا متورطين فى تناقضاتها.

فى الوقت نفسه، وربما على نحو غير مقصود، وفى نهاية الأمر أعطى بوش بعضا من أولئك الذين طبقت عليهم مجموعة الإجراءات البديلة القدرة على الحديث. عندما أعلن أنه سوف يرسل 14 «معتقلا ذوى قيمة عالية» من الظلمة إلى النور؛ حيث سينقلون من «المواقع المظلمة» فى الخارج إلى جوانتانامو. وهناك، وبينما كانوا ينتظرون المحاكمة، فإن اللجنة الدولية للصليب الأحمر سوف «تبلغ باعتقالهم وسوف تتاح لها فرصة مقابلتهم».

وبعد بضعة أسابيع، من 6 إلى 11 أكتوبر ثم من 4 إلى 14 ديسمبر عام 2006، سافر مسئولو الصليب الأحمر الذين كانت مهمتهم مراقبة التقيد بمعاهدات جنيف والإشراف على معاملة أسرى الحرب إلى جوانتانامو وشرعوا فى إجراء مقابلات مع السجناء.

كان هدفهم المعلن هو إصدار تقرير سوف «يوفر وصفا لمعاملة الأربعة عشر معتقلا وظروفهم المادية خلال فترة احتجازهم ضمن برنامج الاعتقالات الخاص بوكالة الاستخبارات المركزية»، وهى فترات تراوحت «بين 16 شهرا وأربع سنوات ونصف السنة تقريبا».

وكما تم إبلاغ المعتقلين بواسطة من أجروا المقابلات من الصليب الأحمر، فإن تقريرهم لم يكن الهدف نشره على الرأى العام، «إلى حد أن كل معتقل وافق على نقله إلى السلطات»، وأن يقدم بأكبر قدر من السرية لمسئولى الوكالة الحكومية التى كانت مسئولة عن احتجازهم وهى فى هذه الحالة وكالة الاستخبارات المركزية الذى أرسل التقرير إلى القائم بأعمال محاميها العام جون ريز فى 14 فبراير 2007.

وكانت النتيجة وثيقة تحكى قصة ما حدث لكل من المعتقلين الأربعة عشر داخل المواقع المظلمة وكانت تحمل كلمة «سرى»، ومن الواضح أنه كان مقصودا به فقط أن يطلع عليه هؤلاء المسئولون الأمريكيون الكبار.

ومنذ فترة قصيرة، وقعت هذه الوثيقة فى يدى، وعرضت القصص التى تحكيها فى مقال أطول فى مجلة نيويورك لعروض الكتب. ولأن تلك القصص قد جرى تدوينها بشكل سرى فى مقابلات تتسم بالصبر أجراها محترفون من اللجنة الدولية للصليب الأحمر، ولم يكن المقصود بها الاستهلاك العام، بقد ما تتسم بقدر غير عادى من المصداقية.

واقع الأمر أن المعتقلين كانوا منعزلين تماما وبشدة وعن العالم، فى المواقع السوداء وفى جوانتانامو، وهو ما يستبعد إلى أقصى حد لجوءهم للتلفيق، وذلك بفضل التشابه الشديد فى قصصهم. وكما يقول كاتبوها فى مقدمتهم، فإن «اللجنة الدولية للصليب الأحمر ترغب فى إبراز أن الادعاءات المفصلة المقدمة على انفراد بواسطة كل شخص من الأربعة عشر تضيف أهمية خاصة للمعلومات المقدمة أدناه».

ابتداء من عناوين الفصول فى صفحة المحتويات «الخنق بالماء» و«الوقوف فى أوضاع تسبب ضغطا على الجسم» و«الضرب باستخدام الطوق» و«الحبس فى صندوق»، تقدم الوثيقة قراءة مقنعة وتبعث على القشعريرة. والقصص المروية فى صفحاتها التى تقل عن الخمسين تؤدى بإصرار إلى هذه النتيجة التى لا لبس فيها، التى لها قوة الحكم القانونى بناء على مصدرها: «تشير الإدعاءات إلى أن المعاملة السيئة التى تعرضوا لها فى حالات كثيرة بينما كان يحتجزهم برنامج وكالة الاستخبارات المركزية، فرادى أو مجتمعين، يمثل تعذيبا. وبالإضافة إلى ذلك، فإن الكثير من عناصر المعاملة السيئة، فرادى أو مجتمعين، كانت تمثل معاملة غير إنسانية أو قاسية أو مهينة».

وربما ينبغى البدء بقصة الرجل الأول الذى طبقت عليه «مجموعة الإجراءات البديلة» التى تحدث عنها الرئيس، طبقا لما جاء فى التقارير الإخبارية:

«أيقظونى وجردونى من ملابسى وربطونى فى سرير فى غرفة شديدة البياض. وكانت مساحة الغرفة تقريبا 4 أمتار فى 4 أمتار. وكانت للغرفة ثلاثة جدران صلبة، بينما كان الجدار الرابع يتكون من أسياخ معدنية تفصلها عن غرفة أكبر منها. لست متأكدا من طول المدة التى بقيت فيها على السرير. وبعد فترة من الوقت، أظن أنها كانت أياما عديدة، ولكنى لا أتذكر عددها على وجه الدقة، نقلت إلى كرسى، حيث بقيت مكبل اليدين والقدمين طوال ما أظن أنه الأسبوعين أو الأسابيع الثلاثة التالية. وخلال تلك الفترة ظهرت قروح على بطن ساقى بسبب الجلوس الدائم. وكان مسموحا فقط بالقيام من على الكرسى للذهاب إلى التواليت الذى كان يتكون من دلو.

«لم يكن يقدم لى طعام صلب خلال الأسبوعين أو الأسابيع الثلاثة الأولى، بينما كنت أجلس على الكرسى. كانوا يعطوننى مشروب «إنشور» وماء للشرب فقط. فى البداية كان الإنشور يجعلنى أتقيأ، ولكن ذلك قل بمرور الوقت.

«كانت الزنزانة والغرفة مكيفتى الهواء وكانتا شديدتى البرودة. وكانوا يبثون نوعا عاليا شديد الصخب من الموسيقى باستمرار. وقد ظلت تتكرر كل 15 دقيقة لمدة 24 ساعة يوميا. وفى بعض الأحيان كانت الموسيقى تتوقف وكان يحل محلها فحيح عالى الصوت أو أصوات طقطقة.

«كان الحراس أمريكيين، ولكنهم كان يلبسون أقنعة لإخفاء وجوههم. ولكن الذين حققوا معى لم يكونوا يلبسون أقنعة».

هكذا بدأت قصة أبوزبيدة، وهو عضو بارز فى القاعدة ألقى القبض عليه فى إحدى الغارات فى باكستان فى مارس عام 2002. وكان القبض على إرهابى نشط لديه معلومات توجب إقامة دعوى قضائية، ضربة موفقة للولايات المتحدة.

بعد علاج أبوزبيدة من جروحه حيث أصيب بطلقات نارية فى بطنه وساقه وفخذه أثناء القبض عليه جاءوا به إلى أحد المواقع السوداء، ربما فى تايلند، ووضع فى تلك الغرفة البيضاء.

من المهم أن نشير إلى أن أبوزبيدة لم يكن وحده مع محققيه، ذلك أن كل من كانوا فى الغرفة البيضاء؛ الحراس والمحققون والطبيب كان على صلة مباشرة ودائمة تقريبا بكبار مسئولى الاستخبارات على الجانب الآخر من العالم. وقال جون كيرياكو، ضابط وكالة الاستخبارات المركزية الذى ساعد فى القبض على أبوزكريا فى مقابلة أجرتها معه إيه.بى.سى.نيوز: «لم يكن بيد المحققين الأفراد أن يقرروا أننى سوف أصفعه أو سوف أهزه».

كل خطوة من الخطوات التى اتخذت فيما يتعلق بأبوزبيدة «كان لابد من إقرارها من نائب مدير العمليات. ولذلك فإنه قبل أن تضع يدك عليه كان عليك أن ترسل برقية تقول فيها «إنه غير متعاون، أطلب الإذن بعمل كذا».

ومضى قائلا: «كان الرد على البرقية يأتى على قدر شديد من التحديد.. لم يكن أحد يرغب فى أن يقع فى المشكلات بالمبالغة فى أى أمر».

كما هو الحال مع أبوزبيدة، تضمنت الجلسة الأكثر قسوة «مجموعة الإجراءات البديلة» التى استُخدمت بشكل متتابع ومتزامن، حيث إن كل أسلوب يعزز من تأثير الآخر. وبعد أن أُلقى القبض على أبوزبيدة بفترة قصيرة، أخطر ضباط وكالة الاستخبارات المركزية الأعضاء الأساسيين فى مجلس الأمن القومى الأمريكى، ومن بينهم نائب الرئيس ديك تشينى، ومستشارة الأمن القومى كوندوليزا رايس والمحامى العام جون أشكروفت، بالخطة التفصيلية للتحقيق. ومع سير التحقيقات، كان رئيس وكالة الاستخبارات جورج تينيت يقدم لكبار المسئولين تقارير يومية بشأن الأساليب التى استُخدمت فى التحقيق.

وفى تلك الأثناء، فى ربيع وصيف 2002، عكف مسئولو وزارة العدل، بقيادة جون يو، على إعداد مذكرة، أصبح المسمى الدارج لها الآن «مذكرة التعذيب»، التى زعمت أنه لكى نعتبر «الإجراء البديل» تعذيبا، يجب أن يسبب نوعا من الألم «يشمل إحداث جرح جسدى خطير وقاسٍ جدا يؤدى غالبا إلى الموت أو فشل أحد الأعضاء أو إصابة دائمة تؤدى إلى العجز عن أداء إحدى وظائف الجسم». وتم إقرار المذكرة فى أغسطس 2002، ومن ثم أصبحت تقوم بوظيفة إعطاء الضوء الأخضر قانونا للمحققين لتطبيق وسائل التحقيق الأكثر عدوانية مع أبوزبيدة، حيث قال: «أُخرجت من زنزانتى ولف أحد المحققين (فوطة) حول رقبتى وأخذ يهزنى ويرطم جسدى بحوائط الحجرة الصلبة».

ووضع السجين بعد ذلك فى صندوق أسود يشبه النعش، طوله نحو أربعة أقدام وعرضه ثلاثة أقدام وارتفاعه ستة أقدام لمدة قال عنها: «أعتقد أنها تراوحت بين ساعة ونصف الساعة إلى ساعتين». وأضاف «كان الصندوق أسود تماما من الداخل والخارج.. ووضعوا قماشا أو غطاء على السطح الخارجى للصندوق كى يحجبوا الضوء ويمنعوا وصول الهواء. وكان صعبا علىّ أن أتنفس. وعندما أخرجونى من الصندوق وجدت أن أحد حوائط الحجرة قد غطيت بالخشب الأبلاكاش. ومنذ تلك اللحظة أصبحوا يرطموننى بهذا الحائط باستخدام الفوطة الملفوفة حول عنقى. وأعتقد أن الخشب الرقائقى قد وضع هناك كى يمتص التأثير الذى تحدثه هذه العملية فى جسدى. فقد أدرك المحققون أن رطمى بحائط صلب قد يسرع من حدوث جروح فى جسمى».

وبعد عملية الضرب تلك، وضع أبوزبيدة فى صندوق صغير بلغ طوله نحو ثلاثة أقدام. وقال: «وضعوا قماشا أو غطاء فوق الصندوق لحجب الضوء تماما ومنع وصول الهواء. وحيث إن الصندوق لم يكن مرتفعا بالدرجة التى تسمح لى حتى بالجلوس فى وضع معتدل، فقد كان علىّ أن انحنى. وكان ذلك صعبا للغاية بسبب جروحى. وأدى الضغط الواقع على أرجلى فى ظل هذا الوضع إلى أن جروح الأرجل والمعدة أصبحت مؤلمة للغاية. وكان الجو باردا فى الحجرة، ولكن عندما يوضع الغطاء فوق الصندوق، كان يصبح شديد الحرارة وهو ما جعلنى أتصبب عرقا فى الداخل. وبدأ الجرح فى رجلى ينفتح وبدأ يدمى. لا أعلم مدة بقائى فى الصندوق الصغير، لكنى اعتقد أنى نمت أو ربما أغمى علىّ».
وأضاف «سحبونى بعد ذلك من الصندوق الصغير، وكنت غير قادر على المشى بطريقة سليمة، ووضعونى فيما يشبه سرير المستشفى وقيدونى بالأحزمة. ووُضع قماش أسود على وجهى واستخدم المحققون زجاجة مياه معدنية فى سكب المياه على القماش حتى لا أستطيع التنفس. وبعد دقائق قليلة، أزاحوا القماش ووُضع السرير فى وضع مستقيم. وكان أثر القيود على جروحى مؤلما للغاية، وتقيأت. ثم وُضع السرير مرة أخرى فى وضع أفقى، ومورس التعذيب نفسه ثانية، حيث وُضع الغطاء الأسود على وجهى وسُكب الماء من الزجاجة. وفى هذا الوضع، كان رأسى فى وضع خلفى أكثر، وتم سكب الماء لفترة أطول. وناضلت ضد القيود محاولا التنفس، ولكن دون جدوى».

وقال أبوزبيدة إنه بعد أن وضع مرة أخرى فى صندوق طولى «أخرجونى مرة أخرى ولفوا مرة ثانية فوطة حول رقبتى ورطمونى بالحائط المغطى بالخشب الأبلكاش وصفعونى على وجهى ثانية بواسطة المحققين نفسيهما اللذين قاما بذلك فى السابق. وجعلونى بعد ذلك أجلس على الأرض ووضعوا قناعا أسود على وجهى حتى بدأت جلسة التعذيب التالية. وكان يجرى الإبقاء على الحجرة باردة جدا طوال الوقت. وقد استمر هذا الوضع لنحو أسبوع».

قال وليد بن عطاش ــ وهو سعودى تورط فى التخطيط للهجمات على السفارات الأمريكية فى أفريقيا عام 1998 وتدمير الباخرة كول فى 2002 ــ واعتقل فى باكستان فى 29 أبريل 2003: «عند وصولى إلى مكان الاحتجاز فى أفغانستان، جردونى من ملابسى كلها، وظللت عاريا طوال الأسبوعين التاليين.. وأجبرونى على البقاء واقفا، قدماى موضوعتان على الأرض ولكن ذراعىّ كانتا مرفوعتين ومقيدتين بالأغلال وكان هناك قضيب حديدى يمتد بطول الزنزانة. وكانت الزنزانة مظلمة وليست بها أى أضواء، طبيعية أو صناعية».

ويبدو أن إجبار السجناء على الوقوف، وأذرعهم مقيدة خلف رءوسهم، أصبح إجراء نمطيا. وقد كان مؤلما بشكل زائد لعطاش، الذى فقد إحدى رجليه فى الحرب فى أفغانستان، حيث قال: «بعد أن ظللت فى هذا الوضع لبعض الوقت، بدأت رجلى الخشبية تؤلمنى جدا، ومن ثم أزحت رجلى الصناعية كى أخفف الألم. وبالطبع بدأت رجلى السليمة تؤلمنى ولم تستطع الاستمرار فى الوقوف، وأصبحت معلقا ووزنى كله محمل على معصمى».

وجرى استخدام الماء البارد جنبا إلى جنب مع الضرب واستخدام طوق من البلاستيك، الذى بدا أنه تطوير للفوطة التى استخدمت مع أبوزبيدة.

وأضاف عطاش: «خلال الأسبوعين الأولين، كانوا يلفون الطوق حول عنقى يوميا، ويستخدمونه فى رطمى بحوائط حجرة التحقيق. وكان يوضع حول عنقى أيضا حينما يأخذوننى خارج الزنزانة، كما كان يستخدم فى سحبى عبر الممرات، وفى رطمى بحوائط الممرات خلال هذه التحركات. وفى الأسبوعين الأولين أيضا، جعلونى أرقد على ملاءة بلاستيكية على الأرض، ثم يتم رفع حوافها، وتسكب المياه الباردة على جسدى بواسطة دلو.. وكنت أترك داخل الملاءة مع الماء البارد لعدة دقائق. ثم يأخذوننى بعد ذلك للتحقيق».

كما تم اعتقال خالد شيخ محمد، المخطط الأساسى لهجمات 11 سبتمبر، فى باكستان فى الأول من مارس 2003.

وبعد ثلاثة أيام من الاحتجاز داخل ما اعتقد شيخ محمد أنه زنزانة، ألبسوه بدلة رياضية، وقاموا بتغمية عينيه ووضع قناع على وجهه، وسماعات فى أذنيه، وقيدوه ووضعوه فى طائرة. وآنذاك نام بسرعة وقال: إن تلك كانت «المرة الأولى التى ينام فيها جيدا منذ خمسة أيام». وظل غير متأكد من المدة التى استغرقتها الرحلة. غير أنه بعد أن وصل، أدرك أنها كانت رحلة طويلة: «استطعت أن أرى فى لحظة ما ثلجا كان على الأرض. وكان كل الأشخاص يرتدون السواد، وأقنعة وأحذية عسكرية، كما لو أنهم أهالى الكوكب «س». واعتقد أن البلد كان بولندا. اعتقدت ذلك لأنه فى إحدى المرات أتت لى زجاجة من المياه بدون نزع الورقة المثبتة عليها. وكان مكتوب بها عنوان بريد الكترونى ينتهى بـ«إل.بى».
وقال للصليب الأحمر إنه كان عاريا وموضوعا فى زنزانة صغيرة. وقال: «لقد بقيت فى الزنزانة لمدة شهر واقفا ويداى مقيدتان ومربوطتان إلى أعلى رأسى، وقدماى مقيدتان ومربوطتان فى نقطة بالأرض».

«بالطبع خلال الشهر رحت فى النوم فى بعض المرات بينما كنت لا أزال معلقا فى ذلك الوضع. وأدى ذلك إلى تركيز وزنى على القيود التى حول معصمى، وتسبب فى جراح مفتوحة ودامية. (الندوب التى تكونت، كانت واضحة على كل من معصميه وكاحليه أيضا). تورمت قدماى بشدة بعد شهر من الوقوف المستمر تقريبا».

وكان محمد يؤخذ إلى غرفة أخرى للاستجواب. كانت الجلسة تمتد إلى ثمانى ساعات ولا تقل عن أربعة.

«وإذا ما فهم أنى لست متعاونا، كنت أوضع فى مواجهة حائط والكم وأصفع على جسدى ورأسى ووجهى. ولابد من أن يوضع طوق غليظ من البلاستيك المرن أيضا حول عنقى، وعلى هذا يمكن أن يربطه الحارس من طرفيه ويستخدمه فى رطمى بالحائط بصورة متكررة. وكان يصاحب الضرب استخدام الماء البارد، الذى كان يصب فوقى باستخدام خرطوم».

وكما حدث مع أبوزبيدة، كانت أكثر الجلسات قسوة تتم بتطبيق «الإجراءات البديلة» التى تستخدم متعاقبة أو مجتمعة، فيقوى استخدام إجراء ما تأثير الإجراءات الأخرى: «يصير الضرب أسوأ عندما يوجه الحارس خرطوما من الماء البارد على.. بينما لاأزال فى زنزانتى. وكان أسوأ يوم عندما ضربنى أحد المحققين لمدة نصف ساعة، ورطم رأسى فى الحائط حتى بدأ تنزف. وصب الماء البارد فوق رأسى، وكان ذلك يتكرر مع محققين آخرين. وأخيرا أخذونى إلى جلسة يتم فيها الغمر فى الماء. ولم يتوقف التعذيب يومها إلا عندما تدخل الطبيب».

ومع قراءة تقرير الصليب الأحمر، يصبح الشخص مدركا إلى حد ما أبعاد «مجموعة الإجراءات البديلة» كما تم وصفها: يحدث البرد والعنف المتكرر خدرا. وعلى هذه الخلفية، تصير أشكال الحياة اليومية للمسجونين فى المواقع المظلمة أكثر حدة، حيث يبدو التحقيق هناك مجرد تصعيد دورى للوحشية المفروضة بشكل ثابت.

وهنا يقول محمد مرة أخرى:

«وبعد كل جلسة تعذيب كنت أوضع فى زنزانة يتاح لى فيها الرقاد على الأرض ويمكننى النوم لمدة دقائق. ومع ذلك، فنظرا للقيود التى فى كاحلى ومعصمى، لم أكن أستطيع النوم جيدا.. كان المرحاض عبارة عن دلو فى الزنزانة، يمكننى استخدامه عند الحاجة» ــ كان مقيدا فى وضع الوقوف، ويداه مثبتتان فى السقف ــ «ولكن لم يكن مسموحا لى أن أنظف نفسى بعد استخدام المرحاض فى الشهر الأول.. ولم يعطونى أى ملابس خلال الشهر الأول. الضوء الاصطناعى كان مضاء على مدار أربع وعشرين ساعة فى اليوم، ولم أر ضوء الشمس على الإطلاق».

أبوزبيدة ووليد بن عطاش وخالد شيخ محمد ــ هؤلاء الرجال أيديهم ملطخة بالدماء فى الغالب الأعم. وهناك أسباب قوية للاعتقاد فى أنهم قاموا بأدوار مهمة فى تخطيط وتنظيم العمليات الإرهابية التى تسببت فى موت آلاف من الناس. ولذلك فمن الأرجح أن ذلك ما تم مع «كبار المعتقلين» الذين تم علاجهم فى سرية شديدة بواسطة الولايات المتحدة، كما وصف تقرير الصليب الأحمر.

وبناء على كل ما نعرفه، نجد أن العديد من هؤلاء الرجال يستحقون المحاكمة والعقاب ــ أى أن «يقدموا إلى العدالة»، كما أعلن بوش أنه سيحدث. وفى الحقيقة، استبعد القضاة العسكريون أو المدنيون، قضايا المسجونين الذين عذبوا ــ فى جوانتانامو ــ ويعنى هذا أنه من المستبعد جدا أن يعرضوا على المحكمة فى وقت قريب.

وبالنسبة إلى الرجل الذى اقترف جرائم كبرى، ربما تتسق مع حالته أكثر «عدم إعمال التعذيب» ويكون ذلك أكثر أهمية من أى حالة أخرى. فاستخدام التعذيب يحرم المجتمع الذى تنتهك قوانينه بصورة سافرة، من إمكانية إقامة العدل. والتعذيب يدمر العدالة. كما أن التعذيب يعوق فى الواقع هذا الحق المقدس فى مقابل فوائد قيمتها مقدرة بشكل قائم على التخمين، أو على الأقل هناك خلاف حول هذه القيمة.

وكما كتبت، يستحيل أن نعلم بالتحديد ما الفوائد التى قد تعود على الولايات المتحدة من موافقة الرئيس على استخدام «مجموعة الإجراءات البديلة»، فى الاستخبارات، وفى الأمن القومى، وفى القضاء على القاعدة. يمكننا أن نقرر ذلك فقط عبر التحقيق، الذى وعدنا به الآن، متأخرا جدا، من قبل لجنة الاستخبارات بمجلس الشيوخ.

وما يمكن أن نقوله بالتأكيد، فى أعقاب تقرير الصليب الأحمر، إن الولايات المتحدة عذبت السجناء، وإن إدارة بوش، بمن فيها الرئيس نفسه، أنكرت صراحة وعلى نحو صارخ هذه الحقيقة. ونستطيع أيضا أن نقول إن قرار التعذيب، فى الحرب السياسية مع الإسلام المتشدد، يضر مصالح الأمريكيين من خلال تخريب الديمقراطية وتدمير سمعة الولايات المتحدة، وتقويض المتعاطفين مع الليبرالية فى العالم الإسلامى والمساعدة بصورة مادية على تجنيد الشباب المسلم فى الحركة المتطرفة. ونحن باتخاذنا قرارا بالتعذيب، نختار بمحض إرادتنا تبنى الصورة الهزلية التى رسموها لنا. ونواجه الآن عواقب هذا الاختيار قانونيا وسياسيا وأخلاقيا. والزمن والانتخابات غير كافيين لمحو ذلك.

خدمة نيويورك تايمز الاخبارية
(نقلا عن الشروق)

ليست هناك تعليقات: