جمال الغيطاني يتحدث :
عرفت في المعتقل كيف تضيع الأسماء والألوان
محيط – شيرين صبحي
بثورة داخلية انعكست على ملامح وجهه الصعيدي الأسمر روي الكاتب الكبير جمال الغيطاني تجربة اعتقاله في سنواته الباكرة وهو في العشرين من عمره قائلا: منذ فترة مبكرة اتجهت للفكر الاشتراكي الماركسي وتعرفت علي مجموعة من المثقفين لعبوا دورا هاما في حياتي علي رأسهم صلاح عيسي ومجموعة خريجي مدرسة الخدمة الإجتماعية وتعرفت عليهم في منزل عبدالرحمن الخميسي . وأوضح في ندوة "أدب السجون" التي نظمها مركز الدراسات العربية الإفريقية، انه انضم سنة 1964 إلي تنظيم صغير معظمه مثقفين هو "وحدة الشيوعيين" وكان الأب الروحي له ابراهيم فتحي واثنين أخرين هربوا من المعتقل هم بهجت الناجي وعادل رفعت وكانوا يكتبون تحت اسم مستعار هو "محمود حسين".
وأضاف الغيطاني: في هذا العام فوجئنا بحل الحزب الشيوعي المصري وحل الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني "حدتو" ونشر الخبر بطريقة فيها ازدراء في الصفحة الأولي من الأهرام وجاء في الخبر أنه تم حل "ما يسمي" بالحزب الشيوعي المصري.
"وحدة الشيوعيين" رفضت الحل واستمرت في العمل التنظيمي، وفي عام 1965 أخذنا قرار بالخروج من التنظيم، والغريب أن القرار تم إتخاذه في وقت واحد دون إتفاق وكان من اتخذ هذا القرار صلاح عيسي وصبري حافظ وعبدالرحمن الابنودي وسيد حجاب وأنا.. وكان التنظيم أقرب للحلقات وأدين له بتكويني ومنحي أساس لرؤية العالم حتي الآن.
بعد الخروج من التنظيم في 1965 علمنا أن أحد الزملاء سلم اسماءنا إلي المباحث العامة، وكان يكتب القصة بالعامية ووقع في غرام ممرضة من القصر العيني واحتاج مبلغ ليتزوجها وعلم قريبه اللواء حسن طلعت داوود -مدير المباحث العامة آنذاك- بأزمته فعرض عليه مبلغ 150 جنيها فسلم اسماءنا كلها ولا اعرف كيف وصل إلي علم الزميل المرحوم أحمد العزبي هذا الخبر، ومنذ ذلك بدأنا نتوجس خيفة ونتوقع الاعتقال.
سجنت قبل أن أٌسجن
وقال الروائي الكبير: كنت كثير التفكير في السجن ويمكن القول إنني سجنت قبل أن أسجن فعندما بدأت دخول الحياة الثقافية كانت ندوة نجيب محفوظ مراقبة، وكان وجود المخبر أمر عادي وفي نفس الوقت كنا نسمع عما يجري في معتقل "الواحات"، وقد كتبت قصص قصيرة عن المعتقل قبل أن أدخل المعتقل منها "رسالة فتاة من الشمال"، "القلعة"، "أحراش المدينة"، و"أمي".. حيث كانت فكرة السجن تشغلني وتملأني باستمرار، معلقا "أنا لا أغفر لأي نظام ارتكب هذه الجريمة مهما كان".
عام 1966 نشر صلاح عيسي ثلاث مقالات في مجلة "الحرية" بعنوان "دراسة في ظاهرة يوليو الثورية" ويبدو أن الرئيس عبد الناصر قرأها أو علم بها فغضب غضبا شديدا، وفي ذلك الوقت كان هناك مجموعة من القوميين العرب موجودين بالإتحاد الإشتراكي منهم د. سمير حمزة الذين كان يشرف علي منظمة "الشباب" التي تولاها فيما بعد د. مفيد شهاب، ود. حسين كامل بهاءاالدين.
الغيطاني أوضح أن قسم مكافحة الشيوعية في المباحث العامة في ذلك الوقت كان عقائدي، فيتم اختيار ضباط لهم موقف عقائدي وبعضهم درب في أمريكا مثل حسن مصيلحي الذي استقال احتجاجا علي الإفراج عن الشيوعيين، وكان ذكر اسمه يثير الرعب لأنه كان خبير في تدمير البشر وحياتهم الخاصة. وأضاف: "أنا حريص علي ذكر الاسماء لأنه لابد أن نعرف من عذبونا".
وقال: سنة 1966 اعتقل صلاح عيسى وتوقعنا أن الدور قادم وبالفعل في 9 اكتوبر تم القبض علي وحدة الشيوعيين ومجموعة القوميين العرب وبعض الاسماء الأخرى .. بالنسبة لي طٌرق الباب فجرا وكانت شقتنا صغيرة متواضعة ودخل الضابط ونتيجة الاقتحام أصيب أخي الأصغر "علي" بصرع تحول بعد ذلك شيزوفرنيا ما زال يعاني منها حتي الآن، حيث نتج عنه التهاب في السحايا وأشياء كثيرة جدا تحملتها الأسرة.وتذكر الغيطاني: الضابط الذي كلف باعتقالي كان غريبا جدا لأنه أخذ كمية كتب كبيرة وكان يأخذها بطريقة غريبة فيأخذ مثلا الجزء الثاني من الجبرتي ويترك الأول وكأنها عملية تخريب.. المهم لم يجد ما يأخذها بها فتم تعبئة ثلاثة بطاطين وربما كانوا الوحيدين في هذا الوقت بالبيت، وأتذكر إنني والوالد بالإضافة لمخبر حمل كل منا بطانية مليئة كتب وورق أبيض "رز" حيث كنت أجمع رزم ورق للكتابة عليها وعندما قلت له إن هذا ورق أبيض فقال إنه ورق منشورات!
وأضاف: عندما ذهبت مع الضابط لم أخذ أي شىء معي من ملابس وغيره سوي فرشاة أسنان ومعجون وصدقت كلامه بأن الأمر مجرد سؤالين.. اتجهت بنا السيارة إلي مبني المباحث العامة في لاظوغلي وبعد ذلك إلي مزرعة طرة، وفي الاستقبال وجدت كل من أعرفهم ماعدا صلاح عيسي الذي كان معتقلا بالقلعة لأنه اعتقل قبلنا بعدة أيام.. واستمررنا حوالي 15 يوما بالمعتقل وهناك التقيت بمجموعة من المناضلين القدامي منهم علي الشوباشي وغالي شكري وغيرهم. المجموعة الأخرى قبض عليهم لأنهم رفضوا حل الحزب وكانوا من العمال وأذكر منهم منصور زكي وقد احببته جدا وارتبطت به بعلاقة حميمية وكان "مطبعجي"، ومحمد بدر وكان من عمال النسيج، ومحمد عبد الغفار وكان عامل نسيج أيضا ويؤم الإخوان المسلمين في الصلاة.
وعلق الغيطاني: وبمناسبة الإخوان أتذكر أن تمام هذا العنبر كل يوم كان 2800 معتقل لا توجد بطاطين أو فراش أو أي شىء والكتب ممنوعة وحتي الخدمة ممنوعة ويكلف بها مساجين من "اللومان" ومن عملية التدمير النفسي أن يبقي الإنسان بلا عمل، وكان أغلبية المعتقل من الإخوان وأشهد أن ما سمعته منهم كان شيئا مروعا.وقال الغيطاني : إذا كنا ندين التعذيب فيجب أن ندينه للجميع، "لقد رأيت إخوان في إصابات –وكانت حبستهم بسبب سيد قطب- ومن الشخصيات التي لا أنساها رجل عذبه شمس بدران بنفسه ووقف علي قصبة رجله كسرها، وكانت الغرفة التي ننام فيها نحن تضم 57 معتقلا، بينما نفس المساحة ينام فيها 150 من الإخوان المسلمين فكانوا يتبادلون النوم ليلا فيقف النصف وينام النصف الأخر أو ينامون "خلف خلاف" لضيق المكان".
وعن السجن في مزرعة طرة يقول الغيطاني، حتي الجريدة لم نكن نراها، ومن ملاحظاتي إختفاء الألوان إذ كلها رمادي، كذلك إختفاء الأطفال والنساء وأذكر مرة جاءت لنا قصاصة ورق من "أخبار اليوم" كان عليها صورة ممثلة فكنا نتخاطفها، وبعد أن خرجت في أول يوم كان المبهر لي هو الألوان !.وعلق "ونحن في مزرعة طره كنا مثل قصة السندباد الذي نزل جزيرة بها وحش يربي البحارة ويسمنهم ليأكل منهم واحد كل يوم"، وأضاف: بدأ استدعائنا للتحقيق في سجن القلعة، وقد بدأ التحقيق مع صلاح عيسي بسبب مقالاته وعلق ثلاثة أيام، ومحمد عبدالرسول الذي بطح كبده وعذب تعذيبا لم أقرأ عنه حتي في كتب النازي لأنه كان الوحيد الذي ضبط عنده منشورات من وحدة الشيوعيين.
توديع الأشياء
وتذكر الغيطاني: في يوم من الأيام بدأ سحبنا اثنين اثنين إلي المعتقل، وجاء عليّ الدور فترحلت مع الدكتور صبري حافظ ولمحت الجواب الذي ترحلنا به "ترحيل المعتقلان الخطران فلان وفلان تحت الحراسة المشددة" فكنت طول الوقت أردد "أنا خطير!" وطول الطريق من مزرعة طرة إلي القلعة كنت أودع الأشياء علي أساس أني لن أراها ثانية وهذا بسبب السمعة السيئة وما سمعناه عما يجري بسجن القلعة.سجن القلعة كان وضعه مختلف وأصبح بالكامل يتبع المباحث العامة ولا يوجد به أحد يرتدي زيّا مدنيا، وعندما دخلنا لم تسجل اسماءنا في دفاتر حتي إذا مات أحد تحت التعذيب فلا تقع مسئولية على أحد ويكتب الإنسان مثل العهدة حتى إذا مات يكتب أنه هرب في الطريق.دخلت سجن القلعة وأصبحت بدون اسم ورقمي 37 ، والذهاب للحمام مرتين في اليوم في السادسة صباحا ومساء، وبدأت اعرف الحبس الإنفرادي، وفيه خلقت لنفسي برنامج للإستغراق فكنت استدعي في ذهني كتابا وابدأ في استعراضه.في اليوم الثالث بدأت اسمع صوت تعذيب واعتقد أكثر شىء مؤلم بالمعتقل كان هذا الصوت فسماع التعذيب مؤلم أكثر من التعذيب نفسه.. وقد قضيت فترة مزدوجة 40 يوما حيث يقضي معظم الزملاء 15 يوما ويعود لمزرعة طرة، وفي الفترة الثانية سمعت نفس الصوت فأدركت أنه تسجيل حيث كانوا يستقبلون به الجدد.وذكر الغيطاني أحد الضباط ويدعي عصام الوكيل كان دائما يمسك بعصا في يده ويهوى النظر علي المساجين ثم يدخل الزنزانة فجأة، وأول يوم دخل عندي وبدأ يسألني عن أشياء ورجع تاني يوم علي ابراهيم فتحي الذي كان في زنزانة مواجهة لي، وسأله عن اسمه فقال له إبراهيم فاعترض الضابط وقال له لا اسمك خليل وستقول اسمك هذا، فقال له إبراهيم "أنا هاريحك" وفوجئت بخبطة حتي الآن اهتز عندما استعيدها، حيث خبط رأسه في الحائط ثلاثة مرات في محاولة للإنتحار لكنهم منعوه.
الخروج بشرف
الروائي المصري قال: في صباح أحد الأيام تم اقتيادي ووضع عصبة علي عيني إلي زنزانة أخري وكان حولي ثلاثة يضربوني بشوم ثقيل حتي دخلت الزنزانة ووقفت في صمت وقد انسحبوا ثم سمعت صوت أقدام ورائحة كولونيا وبدأت عملية صفع رهيبة ثم ساد صمت لكن الرائحة لم تختفي وفجأة سمعت صوت يقول "ماذا تفعلون؟ كاتب محترم يفعل به هذا؟!" وكشف الغطاء فوجدت أمامي رجل برتبة رائد اسمه منير محيسن وبدأ يستجوبني.وعلق الغيطاني: فكرة الإنكار كانت أساسية لأنني حين اعتقلت بالفعل لم أكن في تنظيم، وفي نفس الوقت مسألة الخروج بشرف وعدم الإدلاء علي أحد من زملائي.. وعرض علي سيجارة فرفضتها وكنت لا أدخن ودربت نفسي عدم الاعتماد علي عادة، وفجأة انتهي هذا الاحترام المفتعل وحدث ما لم اغفره لهذا الضابط مطلقا حيث سبني بأمي.. وكانت هذه إشارة لمن يقفون خلفي لبداية عملية تعذيب شديدة حملوني بعدها إلي الزنزانة، وقد تكرر هذا الأمر معي ثلاثة مرات.انتهت فترة الإنفرادي والتي اعتبرها سجن من نوع خاص وعبرت عنها لاحقا في أكثر من قصة منها "المغول"، وبعدها ظهرت في "التجليات" وذكرتها في أكثر من موضع، لكن الأخطر الشعور الداخلي التي تركته في تكويني، وأذكر عندما فصلني السادات في 4 فبراير 1973 ووجدت نفسي "منحرف ضمن المنحرفين" فلزمت البيت لمدة 40 يوما كتبت فيها وقائع حارة الزعفراني، ولم أري الشارع في هذه الفترة حيث كنت مدربا علي الخلوة.وأكد الغيطاني أنه في 12 مارس 1967 قبل أن تلمس طائرة جان بول سارتر مطار القاهرة بخمس دقائق صدر قرار الإفراج عن هذه المجموعة وكان هذا تلبية لشرط سارتر الذي لم نكن نعرفه أو يعرفنا، وتم الإفراج عنا في الساعة الخامسة إلا الربع وذهبنا إلي المباحث العامة واستقبلنا اللواء حسن طلعت وأذكر أخر جملة قالها "أرجو أن تنسوا ما حدث!"
واختتم قائلا : ما حدث لا أستطيع أن أنساه أو أبرره وأغفره لأي نظام. وطبعا هذه التجربة كان كل من فيها كتاب مرموقين من أهم كتاب الستينيات منهم غالب هلسا ويحي الطاهر عبدالله والأبنودي وسيد حجاب والغريب أن لا أحد كتب كل هذه التفاصيل!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق